ويطلق ابن القيم تحذيرًا شديدًا يساعدنا على اجتياز تلك العقبة فيقول: ومن قال: إن له تأويلا لا نفهمه ولا نعلمه، وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه، ففي قلبه منه حرج (?).
نعم، قد تضيق المعاني وتتسع حسب معارف الشخص ومستوى إدراكه، فالقرآن حمَّال أوجه - كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه - ولكن تبقى النقطة الجوهرية ألا وهي مقدار تأثر القلب بما يدركه العقل ... قد يفهم عالم من العلماء مفاهيم كثيرة ويدرك بعقله معاني عميقة حول آية من الآيات، لكنها تظل حبيسة عقله، فلا ينتفع بها قلبه.
وفي المقابل قد يفهم رجل عادي، ذو ثقافة محدودة آية من الآيات بفهم بسيط، ومع ذلك فإن هذه الآية بهذا الفهم قد تؤثر في قلبه، وتهز وجدانه .. فالعبرة بما يحدثه القرآن في القلب كما قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].
وتفاضل الناس عند ربهم ليس بكم المعارف التي في عقولهم، ولكن بمقدار التقوى التي في قلوبهم، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
تأمل معي ما حدث لهذا الأعرابي عندما كان في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فاستمع منه قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]، فقال: يا رسول الله، أمثقال ذرة؟ قال: «نعم». فقال الأعرابي: واسوأتاه، ثم قام وهو يقولها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان» (?).
أما بالنسبة لخوف البعض من أن يقول في القرآن برأيه فيقع فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث، فيرد عليه د. يوسف القرضاوي بقوله:
الأول: أن يراد بالرأي الهوى، فهو يجر القرآن جرًّا لتأييد ما يهواه وما يميل إليه (?)، فلا يجوز ولا يليق ولا يُقبل أن يكون القرآن تابعا لمذهب في الفقه، أو نحلة في الكلام، أو مقولة في الفلسفة، أو شطحة في الصوفية (?).
والثاني: أن يكون معنى الحديث: أن يهجم على تفسير القرآن دون أن يتأهل له بما يلزم من أدوات التفسير وشروط المفسر (?).
وبديهي أن المتدبر، المتفكر في القرآن يختلف عن المفسر، فالمتدبر يبحث عن الهداية والشفاء في القرآن، لذلك فالمعنى هو مقصوده، أما المفسر فيقف عند كل كلمة ليشرح معناها ويستخرج وجوه الإعجاز والبيان فيها، وقد يستخرج منها أحكاما شرعية، وهذا مما لا شك فيه وظيفة العلماء المتخصصين والمؤهلين لهذا العلم.
إذن فلا خطورة من التلقي المباشر من القرآن بعد أخذ هذه الضوابط في الاعتبار، والتأكد بأننا لا نأخذ من القرآن أحكاما شرعية بطريقة مباشرة نلزم بها أنفسنا أو الآخرين، بل علينا الرجوع إلى كتب التفسير والفقه إذا ما أردنا معرفة تلك الأحكام.
(فتفسير مراد الله واستنباط الأحكام الشرعية هما منزلة خاصة بالعلماء والمفسرين أما الفهم والاعتبار والتذكر والاتعاظ فلا عذر لأحد في تركه).