إن بركة القرآن تكمن فيما يحمله من معان عظيمة تنير الطريق وتشفي الصدور وتُسعد العامل بها في الدنيا والآخرة ... فالمعنى إذن هو المقصود من تلاوته، وما الترتيل والتدبر إلا وسائل لتحقيق ذلك.
يقول ابن تيمية رحمه الله: ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك (?).
ويقول أيضا: ولا يخفى على أولي الألباب أن المقصود بنزوله اتباعه، والعمل بما فيه، إذ العاملون به هم الذين جُعلوا أهله، وأن المطلوب من تلاوته تدبره، وفهم معانيه، ولذلك أمر الله بترتيله والترسل فيه، ليتجلى أنوار البيان من مشارق تبصرته، ويتحلى بآثار الإيمان من حقائق تذكرته (?).
ويؤكد على هذا المعنى الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله فيقول: ليست العبرة في التلاوة بمقدار ما يقرأ المرء، وإنما العبرة بمقدار ما يستفيد، فالقرآن لم ينزل بركة على النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظه مجردة عن المعاني، بل إن بركة القرآن في العمل به، واتخاذه منهجًا في الحياة يضيء سبيل السالكين. فيجب علينا حين نقرأ القرآن أن يكون قصدنا من التلاوة أن نحقق المعنى المراد منها، وذلك بتدبر آياته وفهمها والعمل بها (?).
بناء على ما سبق، يتضح لنا أنه ليس هناك أي مبرر لمن يطالب بأن تكون هناك ختمتان للقرآن ... ختمة قراءة لإنهاء الورد دون النظر للمعنى، وختمة للتدبر والتي يمكن أن تستغرق عدة سنوات.
ولعل ما قيل في الصفحات السابقة، مع التركيز على معرفة الهدف الأسمي من نزول القرآن ومدى حاجتنا إليه على مستوي الأمة والفرد ... لعل هذا كله يرد على من يطرح هذا التصور.
فأي هدف سيسعى القارئ إلى تحقيقه وهو يقرأ بدون تدبر؟ وما النفع الذي سيعود عليه من ذلك؟ وهل ستحقق له قراءة الحناجر التغير المنشود الذي ينتظره من القرآن؟
لو كانت القراءة لمجرد الثواب المترتب عليها فقط، لكان من الأولى أن نقوم بأعمال أكثر ثوابًا من قراءة القرآن مثل ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي و يميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفع له ألف ألف درجة، وبنى له بيتًا في الجنة» (?).
ولسنا نعني بذلك التقليل من شأن الثواب المترتب على قراءة القرآن، بل نعني إعادة النظر في في طريقة تعاملنا معه، فقيمة القرآن وبركته الحقيقية تكمن في معانيه، ولأن اللفظ وسيلة لإدراك المعنى كان التوجيه النبوي بالإكثار من تلاوته، وتحفيز الناس على ذلك من خلال الثواب الكبير المترتب على قراءته.
ومثال ذلك: الأب الذي يرصد مكافأة لابنه إن استمر في المذاكرة عدة ساعات، هو بالتأكيد لا يقصد مجرد جلوسه على المكتب والنظر في الكتب دون فهم ما تحتويه، بل هدفه من وراء ذلك تشجيع ابنه على المذاكرة بذهن حاضر ليتحقق له النجاح.