ويقول ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ} [البقرة: 121]. قال: يتبعونه حق اتباعه. وقال عكرمة: ألا ترى أنك تقول «فلان يتلو فلان»: أي يتبعه {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} (?) [الشمس: 1، 2].
العمل مقدم على الحفظ:
لقد كانت قضية العمل بما يتعلمونه من القرآن لا يختلف عليها اثنان منهم، لهذا - كما يقول ابن تيمية - كانوا يبقون مدة في حفظ السورة.
قال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَلَّ في أعيننا (?).
ولقد ظل عمر بن الخطاب يتعلم ويحفظ في سورة البقرة اثنتي عشرة سنة، فلما أتمها نحر جزورا، وهذا ابنه عبد الله يتعلمها في ثماني سنين (?).
فالعمل بالقرآن لديهم كان مقدما على حفظه، ولقد مات الكثير من أكابر الصحابة، بل من العشرة المبشرين بالجنة دون أن يتموا حفظ القرآن ..
أخرج ابن سعد في طبقاته عن محمد بن سيرين قال: قُتل عمر ولم يجمع القرآن (?).
وكما يقول الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وما استكمل حفظ القرآن من أصحابه رضوان الله تعالى عليهم إلا النفر القليل، استعظاما له، ومتابعة لأنفسهم بحفظ تأويله والعمل بمحكمه ومتشابهه.
وفي هذا يقول عبد الله بن مسعود: «إنا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن، وسهل علينا العمل به، وإن من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به».
وكان ابن عمر يقول: كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يرزقون القرآن، منهم الصبي والأعمى، ولا يرزقون العمل به» (?).
وليس معنى هذا هو إهمالهم حفظه، بل معناه انشغالهم بالعمل به عن حفظه، فالعمل بالقرآن مقدم على حفظه، فإن استطاع شخص ما أن يجمع بين الاثنين فهذا هو السابق حقا، فقد استطاع أن يجمع بين النبوة بين كتفيه إلا أنه لا يوحى إليه ..
يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: من جمع القرآن فقد حمل أمرا عظيما، فقد أُدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه.
ولقد جمع أبو موسى الأشعري الذين قرأوا القرآن وهم قريب من الثلاثمائة فعظَّم القرآن وقال: إن هذا القرآن كائن لكم ذخرا، وكائن عليكم وزرا، فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زج به في قفاه فقذفه في النار (?).
وكان أبو عبد الرحمن السلمي إذا ختم عليه الخاتم القرآن أجلسه بين يديه ووضع يده على رأسه وقال له: يا هذا اتق الله، فما أعرف أحدا خير منك إن عملت بالذي علمت (?).
وكان محمد بن كعب القرظي يقول: كنا نعرف قارئ القرآن بصُفرة اللون (?).
فلا يصح جمع القرآن عندهم إلا بالعمل به أولا، وهذا ما أشار إليه الحسن البصري بقوله: إن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه وإن لم يقرأه (?).
ويؤكد ابن عبد البر على هذا المعنى فيقول: وحملة القرآن هم العالمون بأحكامه، وحلاله وحرامه، والعاملون به (?).