فهذا خطاب موجَّه للعقل يحمل تحديًّا معجزًا ولكن هذا وحده لا يكفي لحدوث الرضا القلبي، بل لابد من هزِّ القلب، وإثارة مشاعره، وهذا ما نجده في الآيات التالية للآية السابقة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 24 - 25].
فامتزاج الفكر بالعاطفة هو طريقة القرآن الفريدة في تحويل وجهة القلب إلى الله عز وجل، لينتظر القلب بعد ذلك فضل الله سبحانه وتعالى في إدخال نور الإيمان إليه.
مع دور الإيمان العظيم في دخول الإيمان للقلب فإنه يعمل كذلك على زيادته فيه وذلك من خلال ثلاث وسائل:
الأولى: أنه بنفسه يزيد الإيمان:
فكما مرَّ علينا سابقا أن معاني الإيمان، اتجاه المشاعر إلى الله عز وجل .. معنى ذلك أن الإيمان يزداد في لحظات التجاوب والانفعال القلبي لكل ما هو لله. والقرآن يقوم بذلك من خلال قدرته على التأثير في مشاعر قارئه بمواعظه البليغة وسلطان ألفاظه وبخاصة عند ترتيلها والتغني بها.
نعم في البداية قد يكون التجاوب بطيئا بين العقل والقلب، ولكن بالمدوامة على القراءة مع يقظة الذهن سيزداد التجاوب والانفعال .. هذا التجاوب يعني زيادة الإيمان في القلب، وكلما استثمر الشخص لحظات التأثر بترديد الآية التي أثرت فيه: ازداد الإيمان في قلبه.
الثانية: الطاقة المتولدة من القرآن:
فاستثارة المشاعر تولد طاقة في نفس صاحبها، فإن استثمر تلك الطاقة بحُسن تصريفها في أعمال مصاحبة للقراءة كالدعاء أو السجود مثلا: ازداد الإيمان أكثر وأكثر، وهذا ما نجده في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].
فعندما ترجم هؤلاء الصالحون شعورهم عند استماعهم للقرآن بالسجود والبكاء، انعكس ذلك على القلب بزيادة خشوعه وخضوعه لله عز وجل.
الوسيلة الثالثة: الدلالة على أوجه البر:
فالقرآن يدل على أعمال من شأنها أن تزيد إيمانه كالصلاة والصيام وقيام الليل.
فعلى سبيل المثال: نجد القرآن كثيرا ما يستحث القارئ على الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الروم: 38].
فالإيمان كما نعلم يزيد بالطاعة وتنقص بالمعصية، فإذا ما قام العبد بهذه الأعمال فإن أثرها يعود على القلب مرة أخرى بزيادة مساحة الإيمان فيه.
السبب الرئيسي لمرض القلب هو الهوى، وشفاؤه بالإيمان، وطريقة القرآن الفريدة في شفاء القلب هو «الإحلال» بمعنى استخدام قوة الإيمان ليحل محل الهوى كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18].