الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد ..
فلقد أكرم الله عز وجل هذه الأمة بخير رسالة أرسلها إلى البشر، ضمّن فيها سبحانه وتعالى كل ما يكفُل للإنسان العيش السعيد الآمن في الدنيا، والنعيم المقيم في الآخرة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
هذه الرسالة عندما استمع إليها نفر من الجن أدركوا قيمتها العظيمة، وفهموا المقصد من نزولها، فسارعوا إلى قومهم ليخبروهم بما عملوا .. فماذا قالوا لهم؟
{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 30 - 32].
ولم يكن هؤلاء النفر من الجن وحدهم هم الذين أدركوا قيمة القرآن؛ ففي تاريخنا أسطر من نور تقُصُّ علينا أن جيلًا كاملًا قد أحسن استقبال القرآن، وتعامل معه على أنه منهج حياة، جاءهم من عند مالك الحياة - رحمة منه وفضلًا - ليُعينهم على السير فيها بما يُحقق لهم السعادة في دنياهم وأخراهم.
فهم الصحابة - رضوان الله عليهم - المقصد العظيم من نزول القرآن؛ فتعاملوا معه من هذا المنطلق، وأتوه من أوله، فأعطوه عقولهم وقلوبهم وأوقاتهم، فأحسن القرآن وفادتهم، وأكرمهم بكرمه البالغ، وأعاد صياغتهم من جديد، ليخرجوا من مصنعه أُناسًا آخرين، لم تشهد البشرية لهم نظيرًا فدانت لهم الأرض، وسادوها في سنوات معدودات.
ومضى الزمان، وابتعد المسلمون شيئًا فشيئًا عن القرآن قائدًا وموجهًا، ومصنعًا للتشكيل والتغيير، واشتغلوا عنه بأمور أخرى، ولم يُعطوه من أوقاتهم وأنفسهم ما أعطاه الجيل الأول له، ولم يأتوا أمره من أوله، فما انطلقوا في تعاملهم معه من القصد الأسمى لنزوله .. فماذا كانت النتيجة، وماذا حصدت الأمة من وراء ذلك؟
لقد كانت لنتيجة الطبيعية لإغلاق مدرسة القرآن وتوقف ماكيناته عن العمل أن كل ما بناه الجيل الأول وحققه من مجد وعز تلاشى وأصبح أنقاضًا، وصرنا في ذيل الأمم لا قيمة لنا، ولا اعتبار لوجودنا، فأصبحنا أضيع من الأيتام على مائدة اللئام.
وتطبيقًا للقاعدة " ومن ثمارهم تعرفهم " فلقد عرفنا حُسن تعامل الصحابة - رضوان الله عليهم - مع القرآن من خلال الثمار العظيمة التي تحققت فيهم وفي أمتهم.
وتطبيقًا لنفس القاعدة على الواقع الحالي للمسلمين نجد أنه ومع وجود بعض الانشغال بالقرآن حفظًا وتلاوة إلا أن ثمار هذا الانشغال لم تظهر للوجود بصورة واضحة، وهذا يدل على أن هناك حلقة مفقودة في تعاملنا مع القرآن، وأن المطلوب معه أمر آخر بالإضافة إلى ما نفعله.
إننا وباختصار شديد نحتاج إلى عودة حقيقية إلى القرآن فندخل إلى عالمه ومصنعه، لتُعيد ماكيناته تشكيلنا من جديد، وتغيير ما بأنفسنا، ليُحقق الله وعده الذي لا يُخلف، فيُغير - سبحانه - ما حاق بنا من بؤس وعذاب وضياع.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].