ورابعها: أن القوم لما أغرَوْا به، حتى قال له هشام: ارتحل (?) عنَّا، ألقمه الحجر في الرَّدِّ عليه، ولم يخضع له خُضوع عبيد الدينار والدرهم، بل قال له: ولم؟ أنا اغتصبتُك على نفسي، أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، يعني (?) أنا ما أكرهتك على صحبتي، بل أنت أكرهتني على صحبتك، فاتركني أرتحل عنك، فأنت الطالب لإقامتي، فهذا إفصاحٌ في الزهد في صحبة هشامٍ، وأنها عندهم مكروهةٌ غير جديرةٍ بأن يحرص عليها، ولا خليقة بأن يُلتفت إليها، وهذا كلام من له شهامةٌ كبيرةٌ وأَنَفَةٌ عظيمةٌ، ولأمرٍ ما لانت له عريكة هشامٍ بعد هذا الكلام، فقال هشام (?): لا تهيجوا الشيخ، أي: لا تُغْضِبُوه، فلو كان في مرتبة الأجناد، لم يتصلَّب في الحق حتى تلين شدة هشام قبل أن يلين الزهري، ولعل المعترض على الزهري بمداهنة الملوك لو قام في مقامه هذا، لارتعدت فرائصه، ورجف فؤاده، ولم يأتِ بعُشر ما أتى به الزهري من الذَّبِّ عن أمير المؤمنين عليه السلام في مقام هذا الجبَّار المتمرِّد، وما أحسن قول أبي الطيب:
وإذا ما خلا الجَبَانُ بأرضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وحده والنِّزالا (?)
الوجه الثالث: من الأصل ما رواه الذهبي (?) عن الزهري، قال: قال لي هشام: اكتب لبنيَّ بعض أحاديثك، فقلت (?): لو سألتني عن حديثين ما تابعتُ بينهما، ولكن إن كنت تريد، فادع كاتباً، فإذا اجتمع الناس وسألوني، كتبت لهم.