وإنما مثل القدماء والمحدثين كمثل رجلين: ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثم أتى الآخر فنقشه وزينه، فالكلفة ظاهرة على هذا وإن حسن، والقدرة ظاهرة علية وإن خشن.
وسمعت القاضي أبا الفضل جعفر بن أحمد النحوي وقد سئل عن ذي الرمة وأبي تمام فأجاب بجواب يقرب معناه من هذا لم أحفظه.
وقال أبو محمد الحسن بن علي بن وكيع وقد ذكر أشعار المولدين: إنما تروى لعذوبة ألفاظها، ورقتها، وحلاوة معانيها، وقرب مأخذها، ولو سلك المتأخرون مسلك المتقدمين في غلبة الغريب على أشعارهم ووصف المهامة والقفار، وذكر الوحوش والحشرات ما رويت؛ لأن المتقدمين أولى بهذه المعاني، ولا سيما مع زهد الناس في الأدب في هذا العصر وما قاربه وإنما تكتب أشعارهم لقربها من الأفهام، وأن الخواص في معرفتها كالعوام، فقد صار صاحبها بمنزلة صاحب الصوت المطرب: يستميل أمة من الناس إلى استماعه وإن جهل الألحان وكسر الأوزان.. وقائل الشعر الحوشي بمنزلة المغنى الحاذق بالنغم غير المطرب الصوت: يعرض عنه إلا من عرف فضل صنعته، على أنه إذا وقف على فضل صنعته لم يصلح لمجالس اللذات، وإنما يجعل معلماً للمطربات من القينات: يقومهن بحذقه، ويستمتع بحلوقهن دون حلقه، ليسلمن من الخطأ في صناعتهن، ويطربن بحسن أصواتهن.
وهذا التمثيل الذي مثله ابن وكيع من أحسن ماوقع، إلا إن أوله من قول أبي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم ... فاجعل صفاتك لابنة الكرم
لا تخدعن عن التي جعلت ... سقم الصحيح وصحة السقم
تصف الطلول على السماع بها ... أفذو العيان كأنت في الحكم؟؟
وإذا وصفت الشيء متعباً ... لم تخل من غلط ومن وهم