فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
أردت قولها مفتياً نفوساً ومفيداً مالاً فقابلت مفتياً بالنفوس ومفيداً بالمال، وكذلك قولها في البيت الأخير لما ذكرت النهار جعلته شمساً ولما ذكرت الليل جعلته هلالاً لمكان القافية، ولو كانت رائية لجعلته قمراً.
وسر الصنعة في هذا الباب أن يكون معنى البيت مقتفياً قافيته، وشاهداً بها دالاً عليها كالذي اختاره قدامة للراعي، وهو قوله:
وإن وزن الحصى فوزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزيناً
فهذا النوع الثاني هو أجود من الأول للطف موقعه.
والنوع الثالث شبيه بالتصدير، وهو دون صاحبيه، إلا أن قدامة لم يجعل بينهما فرقاً.. وأنشد للعباس بن مرداس:
هم سودوا هجناً وكل قبيلة ... يبين عن أحسابها من يسودها
وقال نصيب الأكبر مولى بني مروان:
وقد أيقنت أن ستبين ليلى ... وتحجب عنك إن نفع اليقين
وإن تأملت قوافي ما هذه سبيله لم تجد له من لطف الموقع ما لقافية الراعي وإنما أختير هذا النوع على ما ناسب المقابلة والتصدير لأن كل واحد منهما مدلول عليه من جهة اللفظ: إما بالترتيب، وإما باشتراك المجانسة، والقافية في بيت الراعي دالة على نفسها بالمعنى وحده، فصار استخراجها أعجب وأغرب، وتمكنها أشد وأوكد.
وقد حكى أن ابن أبي ربيعة جلس إلى ابن عباس رضي الله عنه، فابتدأه ينشده:
تشط غداً دار جيراننا
فقال ابن العباس:
وللدار بعد غد أبعد