وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويُجملون في الشريعة ويُفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله، أو إجماع المسلمين عليه.
وإن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجبًا، إما جهلا منه، أو عنادًا ومكابرة، أو تشكيكًا لعباد الله في دين الله.
أيها الإخوة: إن من العقل والإيمان ومن تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري، إن ذلك من تمام العقل؛ لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به، ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها، وإن ذلك أيضًا من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه ما لا يعلم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بدين الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187] .