يقول أبو الوليد في بعض كتبه: "أما الأوصاف التي صرح بها الكتاب العزيز التي وصف الصانع الموجد للعالم بها، فهي أوصاف الكمال الموجودة للإنسان، إلى أن قال: أما العلم فقد نبه الكتاب العزيز على وجه الدلالة عليه في قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) , وهي أن المصنوعات تدل - من جهة الترتيب الذي في أجزائه، ومن جهة كونها صنع بعضها من أجل بعض آخر، ومن جهة موافقتها جميعها للمنفعة المقصودة بذلك المصنوع انه لم يحدث عن صانع هو (طبيعة) كما لم يحدث (صدفة) وإنما حدث عن صانع رتب ما قبل الغاية قبل الغاية فوجب أن يكون عالماً به، مثال ذلك:
إن الإنسان إذا نظر إلى البيت فأدرك أن الأساس إنما صنع من أجل الحائط، وأن الحائط إنما أقيم من أجل السقف، يتيقن أن البيت إنما وجد عن عالم بصناعة البناء.
يقول أبو الوليد: "إن من نظر في أجزاء الموجودات وفي ترتيبها وتنظيمها وارتباط أجزائها وحاجة بعض أجزائها إلى البعض الآخر، يدرك تماماً أنّ هذا المصنوع إنما صنعه صانع عليم حكيم، هذا الدليل الذي ساقه ابن رشد والمثال الذي ذكره والأسلوب الذي استعمله يقطع مجموع ذلك دابر ذلك الزعم بأن العالم وجد (صدفة) أو أوجدته (الطبيعة) إذ يأبى العقل الصريح والفطرة السليمة صدور هذا المصنوع العجيب عن طبيعة ليست هي أكثر من الشيء نفسه، أو صفة من صفات الشيء، والشيء لا يوجد نفسه، وأما صفة الشيء فهي تابعة للشيء، لأنها عرض قائم بالشيء، كما هو معروف لدى العقلاء", ثم يواصل ابن رشد حديثه في صفة العلم فيقول:
"وهذه الصفة هي صفة قديمة، إذ كان لا يجوز عليه سبحانه ألا يتصف بها وقتاً ما، ولكن لا ينبغي أن يتعمق في هذا، فيقال: ما يقوله المتكلمون"، ثم أخذ أبو الوليد يناقش أهل الكلام في بدعتهم التي أحدثوها في هذه الصفة كعادتهم: وهي قولهم: "هل الله يعلم المحدث في وقت حدوثه بعلم قديم أو بعلم حديث؟!! ", إلى آخر خوضهم الذي يدل على عدم تقديرهم الخالق حق قدره, فيقول أبو الوليد في تعليقه على هذا الخوض: "وهذا شيء لم يصرح به الشرع، بل المصرح به خلافه , وهو أنه تعالى يعلم المحدثات حين حدوثها كما قال تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا} (الأنعام: 59) .
هكذا يقرر أبو الوليد شمول علم الله تعالى، وأنه يعلم الأشياء قبل أن تكون على أنها ستكون، وكيف تكون، وإذا كانت على أنها كانت، وهو بكل شيء عليم، كيف لا؟ وهو الخالق البارئ المصور، وهذا مفهوم علم الله عند المسلمين سلفاً وخلفاً، بعيداً عن تكلف المتكلفين وتشبيه المشبهين، وتنطع أهل الكلام الذين يهرفون ما لا يعرفون، وقد ابتليت الأمة الإسلامية بهذه الطائفة أيما بلاء. والله المستعان.