تبينا فيما سبق أن ابن رشد لا يثار الغبار حوله في باب إثبات وجود الله تعالى، لا أقول: إنه على يقين تام من وجود الله فحسب، بل هو على استعداد تام لإقناع غيره ممن يخالطه شك أو ليس على يقين من وجود الله تعالى بأدلة عقلية وآيات كونية بأسلوبه القوي الممتاز، كما رأينا فيما سبق من الأبواب, فلنستمع إليه وهو يسوق الأدلة النقلية والعقلية, ويحلل المسألة كعادته, إذ يثبت بأنه تعالى واحد فرد صمد اعتماداً على الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ, اللهُ الصَّمَدُ, لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ, وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} (الإخلاص:1-4) , ويقول أبو الوليد: "إن من نظر في كلمة (لا إله إلا الله) وصدق المعنيين الواردين فيها وهما الإقرار بوجود الباري ونفي الإلهية عما سواه، فهو المسلم الحقيقي", ويثبت ابن رشد من ناحية إدراكه الفلسفي بأن الله هو الصانع الخالق الأول, صنع كل ما في العالم لحكمة على نظام ترتيب وقانون، صدرت عنه جميع الموجودات المتغايرة صدوراً أولياً أزلياً ودفعة واحدة، ويرى ابن رشد أن الفاعل الأول واحد، والوحدانية ذاتية إذ لا يمكن أن تكون الوحدانية زائدة على ذاته التي هي في الوقت نفسه وجوده.
وهذا يعني أن الصفات قائمة بذات الله ومتحدة معها وليست زائدة عليها، وسيأتي لهذه المسألة مزيد إيضاح - إن شاء الله - ماذا يريد أبو الوليد بهذه (الرطانة الفلسفية) ، بعد أن أثبت وجود الله ووحدانيته اعتماداً على الآيات القرآنية، وبعد أو وفق في تفسير كلمة التوحيد تفسيراً سلفياً أثبت فيه الربوبية والألوهية معاً بطريقة رائعة ودقيقة، وصرح بأن المسلم الحقيقي ذلك الذي يقر بوحدانية الله في ربوبيته وألوهيته.
بعد هذا كله أبت عليه فلسفته إلا أن يستعمل أسلوباً مغلقاً ملتوياً بأن الفيلسوف قد اختلط عليه الأمر، ولعل هذا التخبط أثر من آثار فلسفة أرسطو وزملائه الذي تتلمذ على كتبهم وتأثر بهم. وهم يعتقدون بقدم العالم وأزليته ويثبتون تأثيراً لغير الله في هذا العالم في الأفلاك وغيرها على سبيل الاستقلال، ويشبهون الله عز وجل بملك في مدينة ما يعطي الاستقلال في التصرف في المدينة لمن تحته لحاجته إليه في التعاون معه.. سبحان الله عن الشريك والوزير المساعد!! بل هو الواحد الأحد سبحانه. وهؤلاء الفلاسفة الذين تأثر ابن رشد بفلسفتهم يعتقدون بأن الله إنما خلق العقل الأول فقط، والعقل الأول خلق العقل الثاني، وهكذا إلى آخر, كلام ركيك ومليء بالإلحاد والقول على الله بغير علم، وليس فيه مسكة من تقدير الله حق قدرته, سبحانك ما أحلمك يا رب العالمين!!
وقد تورط ابن رشد في هذا الاعتقاد في هذه المسألة كما ترى وكما سيتضح فيما سيأتي من كلامه. ثم أخذ ابن رشد يخوض في مسألة طالما خاض فيها علماء الكلام، وهي هل الصفات زائدة على الذات أم هي عين الذات، إذ يقرر أن ذات الله ووجوده ووحدانيته كلمات يختلف معناها، ولكن دلالتها