يعاقر الشراب ويصحب زيادا، فقيل لزياد: إنك تصحب هذا الرجل وليس من شاكلتك. إنه يعاقر الشراب. فقال: كيف لا أصحبه ولم أسأله عن شيء قط إلا وجدت عنده منه علما، ولا مشى أمامي فاضطرني أن أناديه، ولا مشى خلفي فاضطرني أن التفت إليه، ولا راكبني فمسّت ركبتي ركبته. فلما هلك زياد قال فيه حارثة بن بدر:
أبا المغيرة والدّنيا مغرّرة ... وإنّ من غرّت الدنيا لمغرور
قد كان عندك للمعروف معرفة ... وكان عندك للتنكير تنكير
لو خلّد الخير والإسلام ذا قدم ... إذا لخلّدك الإسلام والخير «1»
وتمام هذه الأبيات قد وقعت في الكتاب الذي أفردناه للمراثي.
وكان زياد لا يداعب أحد في مجلسه ولا يضحك، فاختصم إليه بنو راسب وبنو الطفاوة في غلام أثبته هؤلاء وهؤلاء، فتحيّر زياد في الحكم، فقال له حارثة، بن بدر: عندي أكرم الله الأمير في هذا الغلام أمر، إن أذن لي الأمير تكلمت به فيه.
قال: وما عندك فيه؟ قال: أرى أن يلقى في دجلة، فإن رسب فهو لبني راسب، وإن طفا فهو لبني الطفاوة! فتبسم زياد وأخذ نعليه ودخل، ثم خرج فقال لحارثة: ما حملك على الدعابة في مجلسي؟ قال: طيبة حضرتني، أصلح الله الأمير خفت أن تفوتني، قال: لا تعد إلى مثلها.
ولما ولي عبيد الله بن زياد بعد موت أبيه، اطّرح حارثة بن بدر وجفاه، فقال له حارثة: مالك لا تنزلني التي كان ينزلني أبوك؟ أتدّعي أنك أفضل منه أو أعقل؟
قال له: إنّ أبي كان برع في الفضل بروعا لا تضره صحبة مثلك. وأنا حدث أخشى أن تحرقني بنارك؛ فإن شئت فاترك الشراب وتكون أول داخل وآخر خارج.
قال: والله ما تركته لله فكيف أتركه لك؟ قال: فتخير بلدا أولّيكه. فاختار سرّق