حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الطَّبَرَكِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الدَّامَغَانِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: - وَقَدْ بَلَغَنِي فِي ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحَادِيثُ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَدْ وَضَعْتُ حَدِيثَ كُلِّ مَنْ حَدَّثَ مَوْضِعَهُ، وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ - عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " كَانَ ذُو الْقَرْنَيْنِ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ابْنَ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِهِمْ، لَيْسَ لَهَا وَلَدٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرْلِيسُ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّ صَفْحَتَيْ رَأْسِهِ كَانَتَا مِنْ نُحَاسٍ، فَلَمَّا بَلَغَ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنِّي بَاعِثُكَ إِلَى أُمَمِ الْأَرْضِ، وَهُمْ أُمَمٌ مُخْتَلِفَةٌ أَلْسِنَتُهُمْ كُلُّهَا، وَهُمْ جَمِيعٌ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَمِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ كُلُّهُ، وَأُمَمٌ مِنْهُمْ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ، مِنْهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، فَأَمَّا اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ، فَأُمَّةٌ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ يُقَالُ لَهَا نَاسِكُ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَعِنْدَ مَطْلِعِهَا يُقَالُ لَهَا الْمَنْسَكُ، وَأَمَّا اللَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ فَأُمَّةُ فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْمَنِ، يُقَالُ لَهُ هَاوِيلُ، وَأَمَّا الَّتِي فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْسَرِ فَأُمَّةٌ يُقَالُ لَهَا تَاوِيلُ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ -[1452]- ذُو الْقَرْنَيْنِ: إِلَهِي إِنَّكَ قَدْ نَدَبْتَنِي لِأَمْرٍ عَظِيمٍ لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ إِلَّا أَنْتَ، فَأَخْبَرَنِي عَنْ هَذِهِ الْأُمَمِ الَّتِي تَبْعَثُنِي إِلَيْهَا، بِأَيِّ قَوْمٍ أُكَابِرُهُمْ؟، وَبِأَيِّ جَمْعٍ أُكَابِرُهُمْ؟، وَبِأَيِّ حِيلَةٍ أُكَايِدُهُمْ؟، وَبِأَيِّ صَبْرٍ أُقَاسِيهِمْ؟، وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُنَاطِقُهُمْ؟، وَكَيْفَ لِي بِأَنْ أَفْقَهَ لُغَاتِهِمْ؟، وَبِأَيِّ سَمْعٍ أَعِي قَوْلَهُمْ؟، وَبِأَيِّ بَصَرٍ أَنْفُذُهُمْ؟، وَبِأَيِّ حُجَّةٍ أَخْصُمُهُمْ؟، وَبِأَيِّ قَلْبٍ أَعْقِلُ عَنْهُمْ؟، وَبِأَيِّ حِكْمَةٍ أُدَبِّرُ أُمُورَهُمْ؟، وَبِأَيِّ قِسْطٍ أَعْدِلُ بَيْنَهُمْ؟، وَبِأَيِّ حِلْمٍ أُصَابِرُهُمْ؟، وَبِأَيِّ مَعْرِفَةٍ أَفْصِلُ بَيْنَهُمْ؟، وَبِأَيِّ عِلْمٍ أُتْقِنُ أَمَرَهُمْ؟، وَبِأَيِّ يَدٍ أَسْطُو عَلَيْهِمْ؟، وَبِأَيِّ رِجْلٍ أَطَأُهُمْ؟، وَبِأَيِّ طَاقَةٍ أُحْصِيهِمْ؟، وَبِأَيِّ جُنْدٍ أُقَاتِلُهُمْ؟، وَبِأَيِّ رِفْقٍ أَسْتَأْلِفُهُمْ؟، فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي يَا إِلَهِي شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُ، وَلَا نَقْوَى عَلَيْهِمْ وَلَا نُطِيقُهُمْ، وَأَنْتَ الرَّبُّ الرَّحِيمُ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَلَا تُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَلَا تُحَمِّلُهَا إِلَّا طَاقَتَهَا، وَلَا تُعَنِّتُهَا وَلَا تَفْدَحُهَا، بَلْ أَنْتَ تَرْأَفُ بِهَا وَتَرْحَمُهَا، وَتَعْذُرُهَا وَتَقَبَلُ مِنْهَا دُونَ جُهْدِهَا وَطَاقَتِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنِّي سَأُطَوِّقُكَ مَا حَمَّلْتُكَ، وَأَشْرَحُ لَكَ صَدْرَكَ فَيَسْمَعُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَشْرَحُ لَكَ فَهْمَكَ فَتَفْقَهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُطْلِقُ لَكَ، وَأَبْسِطُ لَكَ لِسَانَكَ، فَتَنْطِقُ بِهِ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَفْتَحُ لَكَ سَمْعَكَ فَتَعِي كُلَّ شَيْءٍ، وَأُحِدُّ لَكَ بَصَرَكَ فَتَنْفُذُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُدَبِّرُ لَكَ أَمْرَكَ، فَتُتْقِنَ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُحْصِي لَكَ فَلَا يَفُوتُكَ شَيْءٌ، وَأَحْفَظُ عَلَيْكَ، فَلَا يَعْزُبُ عَنْكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ -[1453]- ظَهْرَكَ فَلَا يَهُدُّكَ شَيْءٌ، وَأَشُدُّ لَكَ رُكْنَكَ، فَلَا يَغْلِبُكَ شَيْءٌ، وَأَبْسِطُ لَكَ يَدَيْكَ فَتَسْطُوَانِ كُلَّ شَيْءٍ، وَأَشُدُّ لَكَ وَطْأَتَكَ، فَتَبِيدُ كُلَّ شَيْءٍ، وَأُلْبِسُكَ الْهَيْبَةَ، فَلَا يَرُوعَكَ شَيْءٌ، وَأُمْضِي لَكَ جَنَاحَكَ فَلَا يَرْدَعُكَ، وَلَا يَرُدُّكَ شَيْءٌ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ فَأَجْعَلُهُمَا جُنْدًا لَكَ مِنْ جُنُودِكَ، يَهْدِيكَ النُّورُ مِنْ أَمَامِكَ، وَتَحُوطُكَ الظُّلْمَةُ مِنْ وَرَائِكَ، وَتَحُوشُ عَلَيْكَ الْأُمَمَ مِنْ وَرَائِكَ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ انْطَلَقَ يَؤُمُّ الْأُمَّةَ الَّتِي عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَلَمَّا بَلَغَهُمْ وَجَدَ جَمْعًا وَعَدَدًا لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقُوَّةً وَبَأْسًا لَا يُطِيقُهُ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَلْسِنَةً مُخْتَلِفَةً، وَأَهْوَاءً مُتَشَتِّةً، وَقُلُوبًا مُتَفَرِّقَةً، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُمْ ذَلِكَ كَابَرَهُمْ بِالظُّلْمَةِ، فَضَرَبَ حَوْلَهُمْ ثَلَاثَ عَسَاكِرَ مِنْهَا، فَأَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَحَاشَتْهُمْ حَتَّى جَمَعَتْهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ بِالنُّورِ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعِبَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ لَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، فَعَمِدَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ، فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الظُّلْمَةَ، فَدَخَلَتْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ وَأُنُوفِهِمْ وَآذَانِهِمْ وَأَجْوَافِهِمْ، وَدَخَلَتْ فِي بُيُوتِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَغَشِيَتْهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِهِمْ، وَمِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْهُمْ، فَمَاجُوا فِيهَا وَتَحَيَّرُوا، فَلَمَّا أَشْفَقُوا أَنْ يَهْلِكُوا فِيهَا عَجُّوا إِلَيْهِ بِصَوْتٍ -[1454]- وَاحِدٍ، فَكَشَفَهَا عَنْهُمْ، وَأَخَذَهُمْ عَنْوَةً، فَدَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ، فَجَنَّدَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ أُمَّةً عَظِيمَةً، فَجَعَلَهُمْ جُنْدًا وَاحِدًا، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ يَقُودُهُمْ، وَالظُّلْمَةُ تَسُوقُهُمْ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَتَحُوشُهُمْ مِنْ حَوْلِهِمْ، وَالنُّورُ أَمَامَهُ يَقُودُهُمْ، وَيَدُلُّهُ وَهُوَ يَسِيرُ فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُمْنَى، وَهُوَ يُرِيدُ الْأُمَّةَ الَّتِي فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْمَنِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا هَاوِيلُ، وَسَخَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ يَدَهُ وَقَلْبَهُ، وَرَأْيَهُ وَعَقْلَهُ، وَنَظَرَهُ وَائْتِمَارَهُ، فَلَا يُخْطِئُ إِذَا ائْتَمَرَ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَتْقَنَهُ، فَانْطَلَقَ يَقُودُ تِلْكَ الْأُمَمَ وَهِيَ تَتْبَعُهُ، فَإِذَا انْتَهَى إِلَى بَحْرٍ، أَوْ مَخَاضَةٍ بَنَى سُفُنًا مِنْ أَلْوَاحٍ صِغَارٍ أَمْثَالِ النِّعَالِ، فَنَظَمَهَا فِي سَاعَةٍ، ثُمَّ حَمَلَ فِيهَا جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَتِلْكَ الْجُنُودِ، فَإِذَا قَطَعَ تِلْكَ الْأَنْهَارَ وَالْبِحَارِ فَتَقَهَا، ثُمَّ دَفَعَ إِلَى كُلِّ إِنْسَانٍ لَوْحًا، فَلَا يُكْرِثُهُ حَمَلُهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَاوِيلَ، فَعَمِلَ فِيهَا كَعَمَلِهِ فِي نَاسِكَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُمْ مَضَى عَلَى وَجْهِهِ فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُمْنَى، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْسَكَ عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، فَعَمِلَ فِيهَا وَجَنَّدَ مِنْهَا جُنُودًا كَفِعْلِهِ فِي الْأُمَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ كَرَّ مُقْبِلًا فِي نَاحِيَةِ الْأَرْضِ الْيُسْرَى، وَهُوَ يُرِيدُ تَاوِيلَ، وَهِيَ الْأُمَّةُ الَّتِي بِحِيَالِ هَاوِيلَ، وَهُمَا مُتَقَابِلَتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ كُلِّهَا، فَلَمَّا بَلَغَهَا عَمِلَ فِيهَا جُنْدًا مِنْهَا -[1455]- كَفِعْلِهِ فِيمَا قَبْلَهَا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا عَطَفَ مِنْهَا إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي فِي وَسَطِ الْأَرْضِ مِنَ الْجِنِّ وَسَائِرِ الْإِنْسِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ مِمَّا يَلِي مُنْقَطِعَ أَرْضِ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ قَالَتْ لَهُ أُمَّةٌ مِنَ الْإِنْسِ صَالِحَةٌ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، إِنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ خَلْقًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَثِيرًا، فِيهِمْ مَشَابَهَةٌ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُمْ أَشْبَاهُ الْبَهَائِمِ، يَأْكُلُونَ الْعُشْبَ وَيَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ كَمَا يَفْتَرِسُهَا السِّبَاعُ، وَيَأْكُلُونَ نِشَارَ الْأَرْضِ كُلَّهَا مِنَ الْحَيَّاتِ، وَالْعَقَارِبِ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقٌ يَنْمُو كَنَمَائِهِمْ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، وَلَا يَزْدَادُ كَزِيَادَتِهِمْ، وَلَا يَكْثُرُ كَكَثْرَتِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مُدَّةٌ عَلَى مَا نَرَى مِنْ زِيَادَتِهِمْ وَنَمَائِهِمْ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ سَيَمْلِكُونَ الْأَرْضَ، وَيُجْلُونَ أَهْلَهَا مِنْهَا، وَيَظْهَرُونَ عَلَيْهَا، فَيُفْسِدُونَ فِيهَا، وَلَيْسَتْ تَمُرُّ بِنَا سَنَةٌ مُنْذُ جَاوَزَنَا، وَرَأَيْنَاهُمْ إِلَّا، وَنَحْنُ نَتَوَقَّعَهُمْ، وَنَنْتَظِرُ أَنْ يَطْلُعَ أَوَائِلُهُمْ مِنْ هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا} [الكهف: 94] ، إِلَى قَوْلِهِ: {رَدْمًا} [الكهف: 95] ، فَقَالَ:: أَعِدُّوا لِيَ الصُّخُورَ وَالْحَدِيدَ، وَالنُّحَاسَ حَتَّى أَرْتَادَ بِلَادَهُمْ، وَأَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، وَأُفَتِّشَ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهِمْ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَؤُمُّهُمْ حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهِمْ وَتَوَسَّطَ بِلَادَهُمْ، فَإِذَا هُمْ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ، إِنَاثُهُمْ وَذُكْرَانُهُمْ، يَبْلُغُ طُولُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مِثْلَ -[1456]- نِصْفِ الرَّجُلِ الْمَرْبُوعِ مِنَّا، لَهُمْ مَخَالِيبُ فِي مَوْضِعِ الْأَظْفَارِ مِنْ أَيْدِينَا وَأَضْرَاسٌ، وَأَنْيَابٌ كَأَضْرَاسِ السَّبُعِ وَأَنْيَابِهَا، وَأَحْنَاكٌ كَأَحْنَاكِ الْإِبِلِ فَوَهٌ، تَسْمَعُ لَهُ حَرَكَةً إِذَا أَكَلُوا كَحَرَكَةِ الْجَزَّةِ مِنَ الْإِبِلِ، أَوْ كقَضْمِ الْبَغْلِ الْمُسِنِّ، أَوِ الْفَرَسِ الْمُقَوَّى، وَهُمْ هُلْبٌ عَلَيْهِمْ مِنَ الشَّعْرِ فِي أَجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيهِمْ، وَمَا يَتَّقُونَ بِهِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرَدِ إِذَا أَصَابَهُمْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ عَظِيمَتَانِ: إِحْدَاهُمَا وَبِرَةٌ ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا، وَالْأُخْرَى زَغِبَةٌ ظَهْرُهَا وَبَطْنُهَا، تَسَعَانِهِ إِذَا لَبِسَهُمَا يَلْتَحِفُ إِحْدَاهُمَا وَيَفْتَرِشُ الْأُخْرَى، وَيَتَصَيَّفُ فِي إِحْدَاهُمَا، وَيَشْتُو فِي الْأُخْرَى، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَكَرٌ، وَلَا أُنْثَى إِلَّا وَقَدْ عَرَفَ أَجَلَهُ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ، وَمُنْقَطَعَ عُمُرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ -[1457]- مِنْ ذُكُورِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ صُلْبِهِ أَلْفُ وَلَدٍ، وَلَا تَمُوتُ الْأُنْثَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ رَحِمِهَا أَلْفُ وَلَدٍ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ أَيْقَنَا بِالْمَوْتِ، وَتَهَيَّآ لَهُ، وَهُمْ يُرْزَقُونَ التِّنْينَ فِي زَمَانِ الرَّبِيعِ، وَيَسْتَمْطِرُونَهُ إِذَا تَحَيَّنُوهُ كَمَا يُسْتَمْطَرُ الْغَيْثُ لِحِينِهِ، فَيُقْذَفُونَ مِنْهُ كُلَّ سَنَةٍ بِوَاحِدَةٍ، فَيَأْكُلُونَهُ عَامَهُمْ كُلَّهُ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ، فَيُغْنِيهِمْ عَلَى كَثْرَتِهِمْ وَنَمَائِهِمْ، فَإِذَا أُمْطِرُوا أَخْصَبُوا وَعَاشُوا وَسَمِنُوا، وَرُئِيَ أَثَرُهُ عَلَيْهِمْ، فَدَرَّتْ عَلَيْهِمُ الْإِنَاثُ، وشَبِقَتْ مِنْهُ الرِّجَالُ الذُّكُورُ، وَإِذَا أَخْطَأَهُمْ هَزَلُوا، وَأَجْدَبُوا، وَجَفَرَتِ الذُّكُورُ، وَحَالَتِ الْإِنَاثُ، وَتَبَيَّنَ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ يَتَدَاعَوْنَ تَدَاعِي الْحَمَامِ، يَعْوُونَ عَيَّ -[1458]- الْكِلَابِ، وَيَتَسَافَدُونَ حَيْثُ مَا الْتَقَوْا تَسَافُدَ الْبَهَائِمِ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ انْصَرَفَ إِلَى مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، فَقَاسَ مَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ فِي مُنْقَطَعِ أَرْضِ التُّرْكِ، مِمَّا يَلِي الشَّمْسَ، فَوَجَدَ بُعْدَ مَا بَيْنَهُمَا مِائَةَ، فَرْسَخٍ، فَلَمَّا أَنْشَأَ فِي عَمَلِهِ حَفَرَ لَهُ أَسَاسًا، حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ، ثُمَّ جَعَلَ عَرَضَهُ خَمْسِينَ، فَرْسَخًا، وَجَعَلَ حَشْوَهُ الصُّخُورَ وَطِينَهُ النُّحَاسَ، ثُمَّ يُذَابُ، ثُمَّ يُصَبُّ عَلَيْهِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ عِرْقٌ مِنْ جَبَلٍ تَحْتَ الْأَرْضِ، ثُمَّ عَلَاهُ، وَشَرَفَهُ بِزُبِرِ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ الْمُذَابِ، وَجَعَلَ خِلَالَهُ عِرْقًا مِنْ نُحَاسٍ أَصْفَرَ كَأَنَّهُ بُرْدٌ مُحَبَّرٌ مِنْ صُفْرَةِ النُّحَاسِ، وَحُمْرَتِهِ وَسَوادِ الْحَدِيدِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ وَأَحْكَمَهُ انْطَلَقَ عَامِدًا إِلَى جَمَاعَةِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَبَيْنَا هُوَ يَسِيرُ إِذْ دَفَعَ إِلَى أُمَّةٍ صَالِحَةٍ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، فَوَجَدَ أُمَّةً -[1459]- مُقْتَصِدَةً يَقْسِمُونَ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَحْكُمُونَ بِالْعَدْلِ، وَيَتَأَسَّوْنَ بِهِ، وَيَتَرَاحَمُونَ حَالُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَكَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ، وَأَخْلَاقُهُمْ سَلِيمَةٌ، وَطَرِيقَتُهُمْ مُسْتَقِيمَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ مَؤْتَلِفَةٌ، وَسِيرَتُهُمْ مُسْتَوِيَةٌ، وَقُبُورُهُمْ بَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَى بُيُوتِهِمْ أَبْوَابٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أُمَرَاءُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمْ قُضَاةٌ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَغْنِيَاءَ، وَلَا مُلُوكٌ، وَلَا أَشْرَافٌ، وَلَا يَتَفَاوَتُونَ، وَلَا يَتَفَاضَلُونَ، وَلَا يَتَنَازَعُونَ، وَلَا يَسْتَبُّونَ، وَلَا يَقْتَتِلُونَ، وَلَا يَقْحَطُونَ، وَلَا يَحْرِدُونَ، وَلَا تُصِيبُهُمُ الْآفَاتُ الَّتِي تُصِيبُ النَّاسَ، وَهُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْمَارًا، وَلَيْسَ لَهُمْ مِسْكِينٌ وَلَا فَقِيرٌ، وَلَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ مِنْ أَمْرِهِمْ تَعَجَّبَ مِنْهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي أَيُّهَا الْقَوْمُ خَبَرَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ أَحْصَيْتُ الْبِلَادَ كُلَّهَا، بَرَّهَا وَبَحْرَهَا، وَشَرْقَهَا وَغَرْبَهَا، وَنُورَهَا وَظَلْمُهَا، فَلَمْ أَجِدْ مِنْهَا أَحَدًا مِثْلَكُمْ، فَأَخْبَرُونِي خَبَرَكُمْ. قَالُوا: نَعَمْ، فَاسْأَلْنَا عَمَّا بَدَا لَكَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي مَا بَالُ قُبُورِ مَوْتَاكُمْ عَلَى بَابِ بُيُوتِكُمْ؟ قَالُوا: عَمْدًا فَعَلْنَا ذَلِكَ لِئَلَّا نَنْسَى الْمَوْتَ، وَلَا يَخْرُجُ ذِكْرُهُ مِنْ قُلُوبِنَا، قَالَ: فَمَا بَالُ بُيُوتِكُمْ لَيْسَ عَلَيْهَا أَبْوَابٌ؟ قَالُوا: لَيْسَ فِينَا مُتَّهَمٌ، وَلَيْسَ فِينَا إِلَّا أَمِينٌ مُؤْتَمَنٌ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ؟ قَالُوا: لَا نَتَظَالَمُ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ حُكَّامٌ؟ قَالُوا: لَا نَخْتَصِمُ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَغْنِيَاءُ؟ قَالُوا: لَا نَتَكَاثَرُ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مُلُوكٌ؟ قَالُوا: لَا نَتَكَابَرُ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ أَشْرَافٌ؟ قَالُوا: لَا نَتَنَافَسُ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَفَاضَلُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا مُتَوَاصِلُونَ مُتَرَاحِمُونَ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَتَنَازَعُونَ وَلَا تَخْتَلِفُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أُلْفَةِ قُلُوبِنَا وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِنَا. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَسْتَبُّونَ وَلَا تَقْتَتِلُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا غَلَبْنَا طَبَائِعَنَا بِالْعَزْمِ، وَسُسْنَا أَنْفُسَنَا بِالْأَحْلَامِ. قَالَ: فَمَا بَالَكُمْ كَلِمَتُكُمْ وَاحِدَةٌ -[1460]-، وَطَرِيقَتُكُمْ مُسْتَقِيمَةٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَا نَتَكَاذَبَ، وَلَا نَتَخَادَعُ، وَلَا يَغْتَابُ بَعْضُنَا بَعْضًا. قَالَ: فَأَخْبَرُونِي مِنْ أَيْنَ تَشَابَهَتْ قُلُوبُكُمْ، وَاعْتَدَلَتْ سِيرَتَكُمْ؟ قَالُوا: صَحَّتْ صُدُورُنَا، فَنَزَعَ اللَّهُ بِذَلِكَ الْغِلَّ وَالْحَسَدَ مِنْ قُلُوبِنَا. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ مِسْكِينٌ وَلَا فَقِيرٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَيْسَ فِيكُمْ فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ الذُّلِّ وَالتَّوَاضُعِ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْمَارًا؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا نَتَعَاطَى الْحَقَّ، وَنَحْكُمُ بِالْعَدْلِ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَقْحَطُونَ؟ قَالُوا: لَا نُغْفِلُ الِاسْتِغْفَارَ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تَحْرِدُونَ؟ قَالُوا: مِنْ قِبَلِ أَنَّا وَطَّنَّا أَنْفُسَنَا لِلْبَلَاءِ مُنْذُ كُنَّا، فَأَحْبَبْنَاهُ وَحَرِصْنَا عَلَيْهِ، فَعَرِينَا مِنْهُ، قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ لَا تُصِيبُكُمُ الْآفَاتُ كَمَا تُصِيبُ النَّاسَ؟ قَالُوا: لَا نَتَوَكَّلُ عَلَى غَيْرِ اللَّهِ، وَلَا نَعْمَلُ بِالْأَنْوَاءِ وَالنُّجُومِ. قَالَ: حَدِّثُونِي، أَهَكَذَا وَجَدْتُمْ آبَاءَكُمْ يَعْمَلُونَ؟ قَالُوا: نَعَمْ، وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَرْحَمُونَ مَسَاكِينَهُمْ، وَيُوَاسُونَ فُقَرَاءَهُمْ، وَيَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهُمْ، وَيُحْسِنُونَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِمْ، وَيَحْلِمُونَ عَلَى مَنْ جَهِلَ عَلَيْهِمْ، وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ سَبَّهُمْ، وَيَصِلُونَ أَرْحَامَهُمْ، وَيَرُدُّونَ أَمَانَتَهُمْ، وَيَحْفَظُونَ وَقْتَهُمْ لِصَلَاتِهِمْ، وَيُوفُونَ بِعُهُودِهِمْ، وَيَصْدُقُونَ فِي مَوَاعِيدِهِمْ، وَلَا يَرْغَبُونَ عَنْ أَكْفَائِهِمْ، وَلَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ أَقَارِبِهِمْ، فَأَصْلَحَ اللَّهُ بِذَلِكَ أَمَرَهُمْ، وَحَفِظَهُمْ بِهِ مَا كَانُوا أَحْيَاءً، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّفُهُمْ فِي تَرِكَتِهِمْ" قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَذَكَرَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ قَالَ لِتِلْكَ الْأُمَّةِ: لَوْ كُنْتُ مُقِيمًا لَأَقَمْتُ فِيكُمْ، وَلَكِنْ لَمْ أُومَرْ بِالْقِيَامِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015