فكيف بالناس، وهم غير مرسلين ولا معصومين؟! إنها صورة تهز القلب حقا ويجد لها المؤمن رجفة في كيانه حين يخلو إليها لحظات، ناظرا إلى قلبه الذي بين جنبيه، وهو في قبضة القاهر الجبار وهو لا يملك منه شيئا، وإن كان يحمله بين جنبيه ويسير! صورة يعرضها على الذين آمنوا وهو يناديهم: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ» ..
ليقول لهم: إن اللّه قادر على أن يقهركم على الهدى - لو كان يريد - وعلى الاستجابة التي يدعوكم إليها هذه الدعوة، ولكنه - سبحانه - يكرمكم فيدعوكم لتستجيبوا عن طواعية تنالون عليها الأجر وعن إرادة تعلو بها إنسانيتكم وترتفع إلى مستوى الأمانة التي ناطها اللّه بهذا الخلق المسمى بالإنسان .. أمانة الهداية المختارة وأمانة الخلافة الواعية، وأمانة الإرادة المتصرفة عن قصد ومعرفة.
«وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» .. فقلوبكم بين يديه. وأنتم بعد ذلك محشورون إليه. فما لكم منه مفر. لا في دنيا ولا في آخرة. وهو مع هذا يدعوكم لتستجيبوا استجابة الحر المأجور، لا استجابة العبد المقهور.
ثم يحذرهم القعود عن الجهاد، وعن تلبية دعوة الحياة، والتراخي في تغيير المنكر في أية صورة كان: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ».
والفتنة: الابتلاء أو البلاء .. والجماعة التي تسمح لفريق منها بالظلم في صورة من صوره - وأظلم الظلم نبذ شريعة اللّه ومنهجه للحياة - ولا تقف في وجه الظالمين ولا تأخذ الطريق على المفسدين .. جماعة تستحق أن تؤخذ بجريرة الظالمين المفسدين .. فالإسلام منهج تكافلي إيجابي لا يسمح أن يقعد القاعدون عن الظلم والفساد والمنكر يشيع (فضلا على أن يروا دين اللّه لا يتبع بل أن يروا ألوهية اللّه تنكر وتقوم ألوهية العبيد مقامها!) وهم ساكتون. ثم هم بعد ذلك يرجون أن يخرجهم اللّه من الفتنة لأنهم هم في ذاتهم صالحون طيبون! ولما كانت مقاومة الظلم تكلف الناس التكاليف في الأنفس والأموال فقد عاد القرآن يذكر العصبة المؤمنة - التي كانت تخاطب بهذا القرآن أول مرة - بما كان من ضعفها وقلة عددها، وبما كان من الأذى الذي ينالها، والخوف الذي يظللها .. وكيف