واحد يضعه لهم المعبود الذي يعنو له كل العبيد، حيث لا يجد أحدهم في نفسه استكبارا عن الخضوع له، ولا يحس في نفسه صغارا حين يخضع له.
إن الفتنة الكبرى في الأرض هي أن يقوم من بين العباد من يدعي حق الألوهية عليهم، ثم يزاول هذا الحق فعلا! إنها الفتنة التي تجعل الناس شيعا ملتبسة لأنهم من ناحية المظهر يبدون أمة واحدة أو مجتمعا واحدا، ولكن من ناحية الحقيقة يكون بعضهم عبيدا لبعض ويكون بعضهم في يده السلطة التي يبطش بها - لأنها غير مقيدة بشريعة من اللّه - ويكون بعضهم في نفسه الحقد والتربص .. ويذوق الذين يتربصون والذين يبطشون بعضهم بأس بعض! وهم شيع ولكنها ليست متميزة ولا منفصلة ولا مفاصلة! والأرض كلها تعيش اليوم في هذا العذاب البطيء المديد! وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المؤمنة في الأرض. وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة اللّه وحدها، ولا يفرد اللّه سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذين يؤثرون البقاء في الجاهلية، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها.
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب: «أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ» .. إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن اللّه لها بقيام «دار إسلام» تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعورا كاملا بأنها هي «الأمة المسلمة» وأن ما حولها ومن حولها، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه، جاهلية وأهل جاهلية. وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج وأن تطلب بعد ذلك من اللّه أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين.
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة، ولم تتميز هذا التميز، حق عليها وعيد اللّه هذا. وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع، ولا تتبين نفسها، ولا يتبينها الناس مما حولها. وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد دون أن يدركها فتح اللّه الموعود! إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المؤمنة تضحيات ومشقات .. غير أن هذه