وقوله في الكتاب في خِلاَلِ الكَلاَمِ الذي بَدَأَ به القَاضِي: "تحكيماً (?) أو بالقرعة"، المُرَاد بالتحكيم (?) رأي القَاضِي، واجتهاده، وظاهر اللَّفْظِ، تَخْيِيرُ القاضي بين أن يُقْرِعَ، وبين أن يَعْمَلَ بما تعِنُّ له ولا يُقْرعْ، وبه يُشْعِرُ لفظه في "الوسيط"؛ فإنه [قال] (?): يَبْدَأُ القاضي بمن يَرَاهُ، أو بالقُرْعَةِ، ويمكن أن يُحْمَلَ ذلك على وَجْهَيْنِ؛ ذكرناهما (?) في باب التَّحَالُفِ، تَفْرِيعاً على أنَّه لا يَبْدَأُ بالبَائِعِ، ولا بالمُشْتَرِي، بل يَتَسَاوَيانِ.
أحدهما: أن القاضي يَتَخَيَّرُ فَيُقَدِّمُ من يَرَاهُ.
والثاني: أن المُعْتَبَرَ بالقُرْعَةِ. ويجوز أن يقال: كل واحد منهما مُدَّعٍ، ومُدَّعى عليه هاهنا، فينبغي أن يُنْظَرَ إلى السَّبْقِ؛ فمن سَبَقَ دَعْوَاهُ، بُرِئَ بتحليف صَاحِبِهِ.
الأول: ادَّعَى رَجُلٌ نِصْفَ دَارٍ، والآخَرُ كُلَّهَا، وأَقَامَ كُلُّ واحد منهما بَيِّنَةً، والدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ، فالبَيِّنَتَانِ مُتَعَارِضَتَانِ في النِّصْفِ، فإن قلنا بالتَّهَاتُرِ، فهما سَاقِطَتَانِ في النِّصْفِ الذي فيه التَّعَارُضُ.
وأما النِّصْفُ الآخَرُ؛ فعن ابْنِ سُرَيْجٍ، وأبي إِسْحَاقَ، وغيرهما أنَّه على قَولَيْنِ في تَبْعِيضِ الشَّهَادَةِ، فإن لم نُبَعِّضْهَا، بَطَلَتْ في ذلك النِّصْفِ أيضاً، وصار كما لو لم يَكُنْ لواحد منهما بَيِّنَةٌ، وإن بَعَّضْنَاهَا، سُلِّمَ النِّصْفُ لمدعي الكُلِّ.
وامْتَنَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ من تَخْرِيجِهِ على ذلك الخِلاَفِ، وقال: مَوْضِعُ الخِلاَفِ ما إذا كان الرَّدُّ في البَعْضِ لِتُهْمَةٍ من عَدَاوَةٍ وغيرها.
فأما إذا كان الرَّدُّ في البَعْضِ بِسَبَبِ التَّعَارُضِ فما ينبغي أن يَتَأثَّرَ به الثاني.
ألا ترى أنا إذا قُلْنَا بالقِسْمَةِ عند التَّعَارُضِ، تُرَدُّ كُلُّ بَيِّنَةٍ في بَعْضِ ما شهدت به؟ ولا يُخَرَّجُ الثَّانِي على ذلك الخِلاَفِ، وهذا أَصَحُّ عند الشيخ أبي علِيٍّ. وإن قلنا: بالاسْتِعْمَالِ، فَيُسَلَّمُ النِّصْفُ لمدعي الكُلِّ، ويُقَسَّمُ النِّصْفُ الآخر.