فاعتبر قضاء القاضي على رأي، فهذا شيء لا يختص بالإقرار بعْدَ الدَّعْوَى في مجلس القاضي، بل ينبغي أن يطرد في محل الإقرار وإن أنكر المدعَى عليه، فللقاضي أن يسكت، وله أن يقول للمدعي: ألك بينة (?)، وقد روي ذلك عن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في تداعي الحضرمِّي والكنديِّ على ما سيأتي -إن شاء الله تعالى- وفي وجه: لا يقول ذلك؛ لأنه كالتلقين، ثم إن قال المُدَّعِي: لي بينة، وأقامها، فذاك، وإن قال: لا أقيمها، وأريد يمينه، مكن منه؛ لأنه، إن تورع عن اليمين وأقر، سهُل الأمر على المدعي، واستغنى عن إقامة البينة، وإن حلف، أقام البينة، وإن بان كذبه وخيانته، فله إذن في التحليف غرض ظاهر، وإن قال: ليست لي بينة حاضرة، فحلف المدعى عليه، ثم جاء المدعي ببينته، سمعت، وإن قال: لا بينة لي حاضرةً ولا غائبةً، أو قال: كُلُّ بينة أقيمها، فهي باطلة، أو كاذبةُ أو بينته زُورٌ، ثم جاء ببيِّنَةٍ، فوجهان:
أظهرهما: على ما ذكر صاحب الكتاب والعراقِيُّون -رحمهم الله- أَنَّها تسمع؛ لأنها ربما لم تعرف أو نسي ثم عَرَفَ وتذَكَّر.
والثاني: المنع، للمناقضة إلا أن يذكر لكلامه هذا التأويل، فيقول: كُنْتُ جاهلاً أو ناسيًا، وإن قال: لا بينة لي، واقتصر عليه، ففي "التهذيب": أنه، كما لو قال: لا بينة لي حاضرةً، ومنهم من قال: هو كما لو قال: لا بينة لي (?) حاضرةً ولا غائبةً، حتى يكون على الوجهَيْنِ، وهذا ما أورده في الكتاب، ولو قال: شهودي عبيدٌ أو فَسَقَةٌ، ثم أتى بشهود تقبل شهادتهم، إنْ مضى زمان قابِلٌ للعتق والاستبراء.
فَرْعٌ: حكى القاضي أبو سعدٍ وجهين في أنَّ الحقَّ يجب بفراغ المُدَّعِي من اليمين المردودة أو لا بدَ من حكم الحاكم وأشار إلى بنائهما على أن اليمين المردودة كالإِقرار أو كالبينة، والله أعلم.
قَالَ الغَزَالِيُّ: فَإِنْ تَزَاحَمَ المُدَّعُونَ قُدَّمَ السَّابِقَ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أَقْرَعَ بَيْنَهُمُ، وَلا يُقَدِّمُ لِشَرَفٍ إِلاَّ المُسَافِرُ المُسْتَوْفِزُ والمَرْأَةُ فَيُقَدِّمُهُمَا إنْ رَأَى فِيهِ مَصْلَحَةً، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ المفْتِي والمُدَرِّسُ عِنْدَ التَّزَاحُمِ، ثُمَّ السَّابِقُ بِالقُرْعَةِ يَقْنَعُ بِخُصُومَةٍ وَاحِدَةٍ وَلا يَزِيدُ وَإِنِ اتَّحَدَ