الثالثُ: مَنْ أَبَواهُ أَو أَحَدُهما في الحياةِ لا يجوزُ له الجهادُ إلاَّ بإذْنهما، أَوْ بإِذْنه؛ لما روي عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أنه قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَاسْتَأْذَنه في الجهاد، فقال -عليه [الصلاة] والسلام- "أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ قال: نَعَمْ، قال: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ" (?). ويروى أن رَجُلاً جاء فقال: إني أُرِيد أَنْ أُجَاهِدَ مَعَكَ، فقال -صلى الله عليه وسلم- "أَلَكَ أَبَوَانِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ: فقال: كَيْفَ تَرَكْتَهُمَا؟ فَقَالَ: تَرَكْتهُمَا وهما يَبْكِيانِ. فَقَالَ: ارْجِعْ إلَيْهِمَا وَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا" (?) وأيضاً، فالجهادُ فَرْضٌ على الكفايَةِ، وغيرُه يقوم مَقَامَهُ فيه، وبِرُّ الوالِدَيْن مُتَعيّنٌ عليه، هذا بشرطِ الإسْلاَم، وأما إذا كان الأَبَوانِ أَو الحيُّ منهما مُشْرِكاً -فلا يَحْتَاجُ في الخروج إلى إِذْنِه للتهمة الظَاهرة بالمَيْلِ إلى أَهْلِ الدين.
وكان عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلَولٍ يغزُو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعلومٌ أَنَّ أباه كان يَكْرَهُ ذلك، وأنه كان يُخَذُلُ الأجانِبَ، ويمنَعُهم من الجهاد (?).
وأَمَّا الأَجْدادُ والجدَّاتُ، فقد قال الإمامُ: لا يتعدَّى عندي إلحاقُهم بالوالِدَيْن في اشتراطِ الرِّضَا، وعلى هذه اللفظة جرى صَاحِبُ الكتابِ، والمفهُومُ مما أورده غيرهما إلْحَاقُهم بهما بلا تَمْيِيز، وحكى في التَّهْذِيبِ وَجْهِيْنِ، في أنه: هَلْ يحتاجُ إلى اسْتِئْذان الجد مع الأب والجدَ مَعَ الأُمِّ؟
أحدُهما: المنعُ؛ لأن البَعِيدَ محجُوبٌ بالقرِيبِ.
وأَصَحُّهما: نَعَمْ؛ لأن البِرَّ إلى البعِيد، وشفقته لا يختصان بحالة فقدان القريب ولما ذكر أَنَّ للأَبوَيْنِ المنعُ من سفر الجهاد، وذكر حُكْم سائِرِ الأَسْفار. فمنها حَجَّةُ الإِسْلاَم إذا وجبت على الابْنِ؛ لاجتماع شَرَائِطِ الاستطاعة فليس لَهُمَا المنعُ منها؛ لأنها فرضُ عَيْنٍ، وفي التأخير خطر الفوات وليس الخوفُ فيه كالخوفِ في سَفَرِ الجهاد.
وحكى صاحبُ الكتاب في "كِتَاب الحج" وجْهاً: أَنَّ لهما المنعَ مِنَ الخروجِ لها، وذكرنا هناك أنه غرِيبٌ، وقد يُوَجَّهُ بأن الحج على التَّرَاخِي، وبِرَّ الوالدين لاَزِمٌ في الحال.