أحدهما: أنه حقيقة في الطُّهْر مجازٌ في الحيض، فإن الطُّهْر هو الذي يجمع الدم في الرحم، ويحبسه، وقد قيل: إنَّه مأخوذٌ من قولهم أَقْرَأْتُ النُّجُوم إذا تأَخَّر مَطَرها، وأيام الطهر هي التي يتأخَّر فيها خروج الدم.
وأصحهما: أنه حقيقة فيهما جميعاً، والوجهان مبنيَّان على أنَّه يعتبر في اللفظ خصوصُ المعنيين وأنه ليس عبارة عن المعنى المشترك بينهما، وإلاَّ كان وقوعه علَيْهما كوقوع الحَيَوان على الإنْسَان وغيره، ولم يكن حقيقةً في أحدهما (?)، مجازاً في الآخر، لا مشتركاً بْينَهما. هذا ما يَتعلَّق بحال اللفظ ثم المراد عنّدنا من القُرْء المذكور في القرآن، والمحسوب من العدة الأطهار، وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: المراد الحَيْض، وبه الاعتداد، عن أحمد روايتان، كالمذهبين، واحتج الشافعيُّ -رضي الله عنه- بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُن [لِعِدَّتِهِنَّ]} [الآية] (?) والمعنى: في زمان عدتهن، وقد توضَعُ اللاَّم موْضِع "في" كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة، وحذف لفظ "الزمان"؛ لأن العدة تستعمل مصدراً، والمصادر يُعَبَّر بها عن الزمان، يقال: آتيك خُفُوقَ النَّجْم أي زَمَانَ طُلُوعه وإشراقَهْ، وفعَلْتُ كذا مَقْدِمَ الحَجِيج أي زمان قدومهم، وإذا كان المعنى "فَطَلِّقُوهُنَّ في زمانِ عدتهن" كانت الآية إذْناً في زمان العدة، ومعلوم أن الطَّلاق في الحيض محرَّم، فينصرف الإذْن إلى زمان الطهر، ويتصف كونه زمان الطهر بكونه زماناً للعدة، وأيضاً قد مر في أول الطلاق أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم (?) - قرأ "لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ" وأن قَبْل الشَّيْء أوله، والطلاق المأذون فيه هو الطلاق في الطهر، فيكون ذلك أول العدة، ويروى أن الشَّافعيَّ وأبا عبيد القاسم بن سلام -رحمهما الله- تناظَرَا في القرء، وكان الشَّافعيُّ -رضي الله عنه- يقول: إنه الحَيْض، وأبو عبيد يقول "إنه الطُّهْر" فلم يزل كل واحد منهما يقرِّر قوله حتى تفرَّقا، وقد انتحل كلِ واحد منهما مذْهَب صاحبه، وتأثَّر بما أورده من الحُجَج والشواهد، وهذه الحكاية تقتضي أن يكون للشافعيِّ -رضي الله عنه- قولٌ قديم أو حديث يوافق مذهب أبي حنيفة، ثم الطهر المُفَسَّر به القرء، كيف يعتبر؟ فيه قولان: