إذا عرفت ذلك فأعلم قوله: (ودعاء الاستفتاح بعد التكبير مستِحب) بالميم، واللفظ لا يقتضي الإعلام بالحاء والألف، لأنهما يساعدان على أنه يستفتح قبل القراءة بشيء، وإنما يخالفان في أنه بم يستفتح وكل واحد من الذكرين، أعني "وجهت" و"سبحانك اللهم" يسمى دعاء الاستفتاح وثناءه، وليس في لفظ الكتاب تعرض للأول بعينه إلا أنه هو الذي أراده؛ فلذلك أعلم بهما أيضاً، ومن ترك دعاء الاستفتاح عمداً أو سهوًا حتى تعوذ أو شرع في الفاتحة لم يعد إليه ولم يتداركه في سائر الركعات، وفرع عليه ما لو أدرك الإمام المسبوق في التشهد الأخير فكبر وقعد فسلم الإمام كما يقعد يقوم، ولا يقرأ دعاء الاستفتاح؛ لفوات وقته بالقعود، ولو سلم الإمام قبل قعوده يقعد ويقرأ دعاء الاستفتاح، ولا فرق في دعاء الاستفتاح بين الفريضة وغيرها، وحكى بعض الأصحاب أن السنة في دعاء الاستفتاح أن يقول: "سبحانك اللهم وبحمدك ... " إلى آخره، ثم يقول: "وجهت وجهي ... " إلى آخره، جمعاً بين الأخبار، ويحكى هذا عن أبي إسحاق المزوزي وأبي حامد وغيرهما.
الثانية: يستحب بعد دعاء الاستفتاح أن يتعوذ؛ خلافاً لمالك إلا في قيام رمضان.
لنا ما روي عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِم وغَيْرِهِ "أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَعَوَّذُ فِي صَلاَتِهِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ". وصيغة التعوذ: "أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" ذكره الشافعي -رضي الله عنه- وورد في لفظ الخبر، وحكى القاضي الروياني عن بعضَ أصحابنا: أن الأحسن أن يقول: "أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ"، ولا شك أن كلا منهما جائز مؤدٍ للغرض، وكذا كل ما يشتمل على الاستعاذة بالله من الشيطان، وهل يجهر به؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه يستحب الجهرية في الصلاة الجهرية كالتسمية والتأمين.
وأصحهما: وهو المذكور في الكتاب: أن المستحب فيه الإسرار في كل حال؛ لأنه ذكر مشروع بين التكبير والقراءة فيسن فيه الإسرار كدعاء الاستفتاح، وذكر الصيدلاني وطائفة من الأصحاب: أن الأول قول "القديم"، والثاني "الجديد"، وحكى في "البيان": القولين على وجه آخر، فقال أحد القولين: إنه يتخير بين الجهر والإسرار ولا يرجح.
والثاني: أنه يستحب فيه الجهر، ثم نقل عن أبي علي الطبري أنه يستحب الإسرار به، فيحصل في المسألة ثلاثة مذاهب. ثم استحباب التعوذ يختص بالركعة الأولى أم لا؟ منهم من قال: لا، بل يسن في كل ركعة، إلا أنه في الركعة الأولى آكد، وحكوا ذلك عن نص الشافعي -رضي الله عنه-، أما أنه يستحب في كل ركعة، فلظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (?) وقد وقع الفصل بين القراءتين، فأشبه ما لو قطع القراءة خارج الصلاة بشغل ثم عاد إليها يستحب له التعوذ.