والثالث: أرجحها عند الشَّيْخ أبي حامد، وابن الصَّبَّاغ، وغيرهما ووراءها طُرقٌ:
أحدها: أن الإِكراه إنَّما يَحْصُل إذا خوَّفه بما يسلب الاختيار، وكذا التخويف بالإِيلام العظيم.
قال الإِمام -رحمه الله-: لكن لو فوتح به يكاد يسلب الطاقة والاختيار، فيُحْتَمل أنَ يكون إكراهاً، وذكر احتمالين فيما لو خَوَّف الأخرق (?) بما حسبه مهلكاً، وسقط اختياره، هل يُجْعَل ذلك إكراهاً في حقه؛ لظَنِّه وَحُسْبَانِهِ، وقربهما من الخلاف فيما إذا رأوا سواداً فظنوه عَدُوّاً، فصلوا صلاة شدَّةِ الخوف، ثم بَانَ خلافُه قال في "البسيط": ولعل الوجُه ألاَّ يقع الطَّلاق، لأنَّه ساقطُ الاختيار، وإن كان ذلك بظَنٍّ فاسِدٍ.
والطريق الثاني: أنَّه لا يُشْترَطَ سقوطُ الاختيار، بل إذا أكرهه على فعْلٍ من الأفعال مما يُؤْثِر العاقل الإِقْدَام عليه حذراً ممَّا يهدِّده به، حَصَل الإِكراه، وهاتان الطريقتان هما المذكورتان في الكتاب، وعلى الطريقة الثانية لا بُدَّ من النظر فيما يطلبه منْه، وفيما يهدده به، فقد يكون الشيْء إكراهاً في مطلوب دون مطلوب، وفي شخص دون شخص؛ فإن كان المُكْرِه يطلب منْه الطلاقَ، فكما يَحْصُل الإِكراه بالتخويف بالقتل والقطع، يَحْصل بالتخويف بالحَبْس المؤبَّد أو الطويل، فإن الإِنسان يحتمل الطلاق، ولا يُؤثِرُه، وكذا تخويف ذوي المروءة بالصفعْ في الملأ، وتسويد الوجه، والطَّوْف به في الأسواق يكون إكراهاً، ومنهم من لا يجعله ولا التخويف بالحبس إكراهاً، وأَجْرَى مثْل هذا الخلاف في التخويف يقَتْل الوالد والولد، والظاهرُ أن الكُلَّ إكراهٌ، والتخويف بإتلاف المال لا يكون إكراهاً فيه على الأظهر عنْد مَنْ ذهَب إلى هذه الطريقة، وهو المذكور في الكتاب؛ لأن الإنسان يحتمله ولا يُطَلِّق، وإن كان المُكْرِه يطلب القَتْل فالتخويف بالحَبْس وقتل الولَد وإتلاف المال لا يكون إكراهاً، وإن كان يطلب إتلاف المال، فالتخويف بجميع لك يكون إكراهاً، وفيه وجه إن التخويف بإتلاف المال لا يكون إكراهاً في إِتلاف المال أيضاً.
والطريق الثالث: أن الإِكراه إنَّما يحْصُل بالتخويف بعقوبة تتَعلَّق ببدن المُكْرَه ولو حقَّقها، تعلَّق به القِصَاص، فيخرج عنه ما لا يتعلَّق بالبدن، كأخذ المال وقَتْل الولد والوالد، والأخ والزوجة، وكذا ما لا تتعلَّق به القِصَاص؛ كالضرب الخفيف