وقولُهُ في الكتاب: "أمَّا الالتقاطُ، فهو عبارة عن أخْذِ مالٍ ضَائعٍ؛ ليُعَرِّفَهُ المُلْتَقِطُ سَنَةً، ثم يَتَمَلَّكَهُ، إنْ لم يَظْهَرْ مالِكُهُ بشَرْطِ الضَّمَان، إذا ظَهَر" إشارةٌ إلَى معناه الشرعيِّ الذي يَقْصِدُهُ الفقيهُ، لكنَّه قدْ لا يُسْتَحْسَنُ ذلك؛ لأن الأَشْبَهَ أنْ يُقَالَ: ليس للالتقاط معنًى شرعيٌّ، بل هو مقرَّرٌ على حَقِيقته، لكنَّ الفَقِيهَ يتكلَّمُ في الالتقاطِ خاصٌ، وأيضاً؛ فلانَّهُ أخَذَ المُلْتَقِطُ في تفسير الالتقاط، وأيْضاً، فلأنَّه أخَذَ التعريفَ أو قَصَدَ التعريفَ في التفسير، وذلك لاَ يلائم عدَّه التعريف في الباب الثاني منْ أحكام الالتقاطِ، وكذا القول في التملُّك، وفي الضَّمان عند ظُهور المَالِكِ، وفقْهُ الفَصْل مسألتاَن:
الأُولَى: قال الشَّافِعِيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنه- في "المختصر": ولا أُحِبُّ لأُحُدٍ تَرْكَ لُقَطَةٍ وَجَدَهَا، إِذَا كَانَ أَمِيناً. وقال في "كتاب اللُّقطَة الصغير" منْ "الأُمِّ": "ولا يَحِلُّ تَرْكُ اللُّقَطَةِ لِمَنْ وَجَدَهَا إذَا كَانَ أَمِيناً علَيْهَا" وللأصحاب فيها طريقان:
قال الأكْثَرُونَ: المسألة على قولَيْن: أحَدُهما: وُجُوبُ الالتقاط؛ لأنَّه حُرْمَة مالِ المُسْلِمِ كحرمةِ دَمِهِ، فيجبُ صَوْنُهُ منْ الضَّياع.
وأصحُّهُمُا: لا يَجِبُ، كما لا يجبُ قَبُولُ الوديعة، إذا عُرِضَتْ عليه.
وعن ابْنِ سُرَيْجٍ وأبي إسحاقَ حَمْلُ النَّصَّيْنِ عَلَى حالَيْن، إن كانت في موضع تغْلِبُ على الظنِّ ضياعُها بأن تكونَ في ممرِّ الفسَّاقِ والخونة، وجب الالتقاط، وإلاَّ، لم يجبْ؛ لأنَّ غيرَه يأخُذُها ويحفَظُها. هذا ما رواه عامَّةُ الحملة.
وفي "النهاية" طَرِيقة أخرى: أنَّه إن كان لا يَثِقُ بِنَفْسِهِ، لَمْ يجبْ الاَلتِقاطُ علَيْهِ قوْلاً واحداً، والقولانِ فيمَنْ يَغْلِبُ على ظَنَّهِ أنَّه لاَ يخونُ.
وأخرَى قاطعةٌ بنفي الوجُوبِ مطْلَقاً حاملةٌ للنصِّ الآخَرِ على تأكيد الأمْرِ به.
وإذا قلْنا بنفْي الوُجُوبِ، فإنْ وَثَقَ بِنَفْسِهِ، ففي الاستحباب وجهان:
أصحُّهُمَا: ثبوتُهُ. قال في "النهاية": وإن لم يَثِقْ بِنَفْسِهِ، وليْسَ هو في الحالِ مِنَ الفَسَقَةِ، فلا يُسْتَحَبُّ له الالتقاطُ لا مَحَالةَ.
وحَكَى عن شَيْخِه وجهين في الجواز:
أصحُّهُمُا: ثُبُوتُهُ، وشبَّههما بالوجْهَيْن في أنَّ الصالح للقضاءِ، إذا لم يأْمَنْ عَلَى نَفْسِهِ، هل يجوزُ له تقلُّدُ القَضَاء؟
وسواءٌ قلْنا بوجُوب الالتقاط، أو عَدَمِهِ، فلا تُضْمَن اللقطة بالتَّرْكِ؛ لأنَّها لم تَحْصُلْ في يَدِه. هذا حكم الأمِنِ.
أمَّا الفاسِقُ، فجَوابُ مُعْظَمِ الأصْحَابِ أنَّهُ يُكْرَه له الالتقاط؛ لأنَّه رُبَّما تدعوه نَفْسُه