الثاني: الجَوَّالُ الذي يقْعُد كلَّ يوم في موضِعٍ من السُّوق يبْطُل حقَّه، إذا فارق المكان، والذي تقدَّم مفروضٌ في غيره.

قَالَ الغَزَالِيُّ: وَمَنْ جَلَسَ في المَسْجِدِ لِيُقَرأَ عَلَيْهِ القُرْآنُ وَالعِلْمُ فَيَأْلفُهُ أَصْحَابُهُ فَهُوَ كَمَقَاعِدِ الأَسْوَاق، فَإنْ جَلَسَ للِصَّلاَةِ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ فِي صَلاَةٍ ثَانِيَةٍ، وَيَخْتَصُّ (و) فِي تِلْكَ الصَّلاَة إِذَا غَابَ بِعُذْرِ رُعَافٍ أَوْ غيْرِهِ.

قَالَ الرَّافِعِيُّ: أمَّا المَسْجِدُ، فالجلُوسُ فيه يُفْرَضُ لأغْراضٍ.

منها: أنْ يجلس؛ ليُقْرأ عليه القرآنُ، أو يُتعلَّمَ منه الفقْهُ، أو يُسْتَفْتَى.

قال صاحبُ الكتابِ والشَّيْخ أبو عاصمٍ العبَّادِيُّ: الحكم فيه كما في مقاعِدِ الأسْوَاق؛ لأنَّ له غَرَضاً في ملازمةِ ذَلك المَوْضع ليألفه الناسُ (?)، وهذا أشبَهُ بمأخذ الباب. وحَكَى أقضى القضاة الماوَرْدِيُّ: أنَّه مهما قام، بَطَلَ حقُّه، وكان السابِقُ إلَيْه أحقَّ لقوله تعالَى: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} (?) [الحج: 25].

ومنها أنْ يَجْلِسَ للصَّلاة، وذلك لا يقتضي الاختصاص لما بعدها من الصَّلَوات؛ بل مَنْ سبَق في سائر الصلوات إلَى ذلك الموضع، فهو أحقُّ، وفرَقُوا بينه وبيْن مقاعد الأسواقِ بأنَّ غَرَضَ المعاملة يختلفُ باختلافِ المقاعد، والصلاةُ في بقاع المسجد لا تختلف، ويجوز أنْ يمنعَ ذلك؛ لأنَّ ثوابَ الصَّلاةِ في الصَّفِّ الأول أكثرُ، وأيْضاً، فالإنسان قد يألف بقعة من المسْجِد، فهلاَّ كان الحكْمُ كما سيأتي في المدارِسِ، إذا فارق البيتَ الذي يسكنُهُ، وأمَّا الصلاةُ التي حضَرَ لها، فهو أحقُّ بالموضع فيها, وليس لغيره أن يُزْعِجَهُ، فإن فارقه إجابةً لِمَنْ دعاه، أو لِرُعَافٍ، أو قضاءِ حاجةٍ أو تجديد وضوءٍ، ففيه وجهان، ذكرهما القاضي ابن كَجٍّ وغيرُه:

أَحَدُهُمَا: أنَّ اختصَاصَهُ يَبْطُلُ لحصولِ المفارقة، كما بالإضافة إلَى سائر الصلواتِ. وأصحُّهما: المَنْعُ؛ لما رُوِيَ أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قَامَ أَحَدُكُمْ من مَجْلِسِهِ في المَسْجِدِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ إِذَا عَادَ إِلَيْهِ" (?). ولا فرق على الوجهين بين أنْ يتركَ إزاره فيه،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015