والمنهج العلمي يقضي -أيضاً- فيما هو (دعوى) بالتوجه إلى (نوع الدليل) الذي يناسبها، فالدعاوى المتعلّقة بطبائع الأشياء المادية وجوهرها تحتاج إلى دليل علمي تجريبي محسوس، والدعاوى المتعلقة بالمجردات؛ كالأرقام، والنفس، والمنطق، تحتاج إلى براهينها القانونية المسلَّمة، والدعاوى المتعلقة بالحقوق والأمور القضائية فيما يقع فيه خلاف بين المتنازعين لا ينفع معها إلا البيّنات والحجج المتفق على ضرورة ارتباطها معها، وهكذا لا تصبح الدعاوى حقائق علمية ثابتة إلا بعد أن يقترن بها الدليل الذي يناسبها، فالدليل في غير هذا الحال ليس له أية قيمة علمية.
ورحم الله ابن تيمية؛ فإنه قال في كتابه «الاستغاثة والرد على البكري» (2/628-629) بعد كلام:
«والعلم شيئان: إما نقل مصدَّق، وإما بحث محقَّق؛ وما سوى ذلك فهذيان مسروق، وكثير من كلام هؤلاء هو من هذا القسم؛ من الهذيان (?) ، وما يوجد فيه من نقل فمنه ما لا يميز صحيحه عن فاسده، وفيه ما لا ينقله على وجهه، ومنه ما يضعه في غير موضعه، وأما بحثه واستدلاله على مطلوبه فمن العجائب، فلا يتحقق جنس الأدلة حتى يميز بين ما يدل وما لا يدل، ولا مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح إذا تعارض دليلان» ، قال:
«وقد قيل: (إنّما يُفسد الناسَ نصفُ متكلم، ونصفُ فقيه، ونصفُ نَحْوِيّ، ونصفُ طبيب؛ هذا يُفسد الأديان، وهذا يُفسد البلدان، وهذا يُفسد اللسان، وهذا يُفسد الأبدان) ، لا سيما إذا خاض هذا في مسألة لم يسبق إليها عالم ولا معه فيها نقل عن أحد، ولا هي من مسائل النزاع بين العلماء فيختار أحد القولين، بل هجم فيها على ما يخالف دين الإسلام المعلوم بالضرورة