«ثم إنه رسم بهدِّ القلعة فهُدمَتْ وهدُّوا معها جامعَها، الذي تحيَّرت العقول في تكْوينه وكُنْهه وحُسنه، الذي لم يكن فيه عَيبٌ سوى أنه لم تَقَع العيونُ على نظيره، ولله درُّ مادِحه، فقد أجادَ في المقال:
دمشقُ لها مَنْظرٌ فائق ... وكلٌّ إلى وصْلِهَا مائِقُ
وكيفَ تُقَاسُ بها بلدةٌ ... أبى اللهُ والجامِع الفارقُ»
ثم فصَّل في ذكر محاسنِ جامع دمشق، وما قيل فيه، وقال بعد ذلك:
«فبينما المدينة بجامعها على هذه الصفة البهية، إذ وردت عليها الطغاة من التمرلنكية، فأزالوا بهجَتها بالهدّ والنيران، وغيّروا رسومها وآثارها من العمران، فصارت النيران كأنها قد نشرت في مدد الطعام ومعصفرات عصائبها، وصعدت إلى عنان السماء عذباتُ ذوائبها.
ذوائبُ لجتْ في عُلُوٍّ كأنمَّا ... تُحاولُ ثأراً عنِد بعضِ الكَواكب
وعلَتْ في الجوِّ كأنّها أعلامُ ملائكة النّصر، وكان الواقف في الميدان يراها وهي ترمي بشرَر كالقصر، فكَم زخر لذلك الدخان جاثيةٌ، وكم نفْسٌ كانت في النزعات وهي تتلو: {هَلْ أتَاكَ حَدِيْثُ الغَاشِيَة} [الغاشية: 1] ، ولم تزلِ النارُ تأكلُ ما يليها، وتُفْني ما يُشعِلُها ويقليها، إلى أن شملَت على دُورها ومدارسها، وعلَتْ على أسواقها ومجالسها، فكادت تكون كنار القيامة، وقودُها الناسُ والحِجارة، وأصبحَ بابُ الساعات وهو من آيات الساعة، وخلت مصاطب الشهود من السُّنَّةِ والجماعة، وأصبحَت الدْهشَة وقد آل أمرُها إلى الوَحْشَة، كأن لم يكن بها شهيد ولا شهود، من ثيابها وقماشها جبة وحرير، وأصبحت الميادين وقد صارت كالعِهن المنفوش، ومحُيَتْ بأيدي النار سطورُ كلِّ جامٍ منقوش، وأصبح أصحابها كالحمام ينوح على أقفاصها، وتودُّ اللآلىء أنها لم تخرج إليهم من مغائصها، فما منهم إلا ربُّ نعمة سُلبت، وأصبح بعد الجديد في خَلَق، وغنيّ أمسى فقيراً يكدى في الخلق، ولله در الشاعر الماهر: