فليعرف قدره، ولا يتعدى طوره، ولا يقتحم المهالك.
ثالثاً: غاية هؤلاء الثائرين إما أن يَغْلبوا وإما أن يُغْلبوا، ثم يزول أجرهم، ويفنى ذكرهم، ولا تكون لهم عاقبة، فلا أقاموا ديناً، ولا أبقوا دنيا، بخلاف العلماء الربانيين، فإن لهم ثمرة، وحملوا الأمانة نقيّة، وسلّموها لمن بعدهم ناصعة جليّة.
قال ابن تيمية في «منهاج السنة النبوية» (4/528-532) على إثر سرده جماعات من الثائرين الخارجين على أئمة الجور في زمانهم، وبعضهم لا يحمل المبادئ العقدية التي ينادي بها الخوارج من التكفير بالكبيرة، قال:
«وغاية هؤلاء إما أن يَغلبوا وإما أن يُغلبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة؛ فإن عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقاً كثيراً، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور، وأما أهل الحرة وابن الأشعث وابن المهلب وغيرهم فهزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا، والله -تعالى- لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا، وإن كان فاعل ذلك من أولياء الله المتقين ومن أهل الجنة، فليسوا أفضل من علي وعائشة وطلحة والزبير وغيرهم، ومع هذا لم يحمدوا ما فعلوه من القتال، وهم أعظم قدراً عند الله وأحسن نية من غيرهم.
وكذلك أهل الحرة كان فيهم من أهل العلم والدين خلق، وكذلك أصحاب ابن الأشعث كان فيهم خلق من أهل العلم والدين، والله يغفر لهم كلِّهم.
وقد قيل للشعبي في فتنة ابن الأشعث: أين كنت يا عامر؟ قال: كنت حيث يقول الشاعر:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى ... وصوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أطير
أصابتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء.