وقال ابن تيمية موصّفاً إياها اعلم أن الله أرسل محمداً إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا -أو أكثرهم- قبل مبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين: إما كتابي معتصم بكتاب -إما مبدّل، وإما منسوخ- وإما بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك، وإما أُمّي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غيره ذلك. والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علماً وهي جهل. وأعمال يحسبونها صلاحاً وهي فساد وغاية البارع منهم علماً وعملاً أن يُحصّل قليلاُ من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليه حقه بباطله، أو يشتغل بعلم القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يُؤثّر في صلاحه إلا قليلاً وأن يكدح بنظره نظر المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئاً، باطله أضعاف حقه -إن حصل- وأنّى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب (?) اهـ.
الدليل الثاني: قوله -تعالى-: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). [البينة: 1].
قال ابن تيمية: وممن ذكر هذا أبو الفرج بن الجوزي. قال: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ). اليهود والنصارى (وَالْمُشْرِكِينَ) وهم عبدة الأوثان (مُنفَكِّينَ) أي منفصلين وزائلين ... والمعنى لم يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حتى أتتهم البينة. لفظه لفظ المستقبل ومعناه: الماضي والبينة الرسول وهو محمد، صلى الله عليه وسلم، بيّن لهم ضلالهم وجهلهم ... ولفظ البغوي نحو هذا قال: لم يكونوا منتهين عن كفرهم وشركهم .. (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). لفظه مستقبل ومعناه: الماضي أي حتى أتتهم البينة -الحجة الواضحة- بعني محمداً أتاهم بالقرآن فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان، فأنقذهم الله به من الجهل والضلالة (?) اهـ.