فقوله: «اطبخوا لي جبة» يعني: خيطوا لي جبة، فأطلق الطبخ وأراد الخياطة - والطبخ أجنبي من الخياطة - للمشاكلة بينهما. والتحقيق أنه هنا لا مشاكلة، وأن الله ذكر مكره وحده ولم يذكر مكر عبده كما قال هناك: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: آية 30] ذكر مكرهم ومكره، وهنا ذكر مكره وحده. ولذا قال: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} [الأعراف: آية 99].
والتحقيق أن المكر صفة أطلقها الله على نفسه، ولا يجوز إطلاقها على الله إلا في الموضع الذي يُطلقها هو على نفسه أو رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع جميع العلماء أنه لا يجوز أن يُشتق له منها اسم، فلا تقل: من أسمائه الماكر؛ لأن ذلك لا يجوز إجماعًا.
ومعنى (مكر الله) أنه (جل وعلا) يستدرجهم ويغدق عليهم النعم والصحة والعافية حتى يكونوا أغفل ما كانوا، ثم يأخذهم بغتة ويهلكهم في غاية الغفلة، وهذا فعل أحسن ما يكون وأبلغ ما يُتصور، وقد ضربوا مثلاً -ولله المثل الأعلى- قالوا: لو فرضنا أن هنالك رجلاً شديد البلية على الناس، يقتل هذا، ويظلم هذا، وجميع الناس في غاية التأذِّي منه، ثم إن رجلاً صالحًا كريمًا طيبًا احتال عليه بحيلة شريفة، حتى قتله وأراح الناس منه، فكلهم يقول: جزاك الله خيرًا، والله إن قَتْلَك له في صورة خفاءٍ إنه أحسن ما يكون.
وعلى كل حال فالله لا يصف نفسه إلا بما هو في غاية الحسن والجمال واللياقة، فوصف نفسه هنا بأنه يهلك الكافرين بمكره، وأن كيده متين كما قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: آية 183] ونحن قد قدمنا لكم في هذه الدروس مرارًا - وكررناه