قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو آثَارَ النَّاسِ، فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الْأَرْضِ وَرَائِي، تَعْنِي حِسَّ الْأَرْضِ، فَالْتَفَتُ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ، فَجَلَسْتُ إِلَى الْأَرْضِ، قَالَتْ: فَمَرَّ سَعْدٌ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
[البحر الرجز]
لَبِّثْ قَلِيلًا يُدْرِكُ الْهَيْجَا حَمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الْأَجَلْ
قَالَتْ: وَعَلَيْهِ دِرْعٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهُ أَطْرَافُهُ، فَأَنَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أَطْرَافِ سَعْدٍ، وَكَانَ سَعْدٌ مِنْ أَطْوَلِ النَّاسِ وَأَعْظَمِهِمْ، قَالَتْ: فَقُمْتُ فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً -[422]- فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ تَسْبِغَةٌ لَهُ، تَعْنِي الْمِغْفَرَ، قَالَتْ: فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَا جَاءَ بِكِ، وَاللَّهِ إِنَّكِ لَجَرِئَةٌ، وَمَا يُؤْمِنُكِ أَنْ يَكُونَ تَحَوُّزٌ أَوْ بَلَاءٌ؟ قَالَتْ: فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنَّ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ سَاعَتَئِذٍ فَدَخَلْتُ فِيهَا، قَالَتْ: فَرَفَعَ الرَّجُلُ التَّسْبَغَةَ عَنْ وَجْهِهِ فَإِذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَتْ: فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا عُمَرُ، إِنَّكَ قَدْ أَكْثَرْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ، وَأَيْنَ التَّحَوُّزُ أَوِ الْفِرَارُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ، قَالَتْ: وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْعَرِقَةِ بِسَهْمٍ فَقَالَ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ فَأَصَابَ أَكْحَلَهُ، فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْنِي حَتَّى تَشْفِيَنِي مِنْ قُرَيْظَةَ، وَكَانُوا مَوَالِيهِ وَحُلَفَاءَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، قَالَتْ: فَرَقَأَ كَلْمُهُ، تَعْنِي جُرْحَهُ، وَبَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الرِّيحَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، فَلَحِقَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَنْ مَعَهُ بِتِهَامَةَ، وَلَحِقَ عُيَيْنَةُ بِمَنْ مَعَهُ بِنَجْدٍ، وَرَجَعَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فَتَحَصَّنُوا فِي صَيَاصِيهِمْ، وَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَمَرَ بِقُبَّةٍ فَضُرِبَتْ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ صلّى الله عليه وسلم وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ فَقَالَ: أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ، فَوَاللَّهِ مَا وَضَعَتِ الْمَلَائِكَةُ السِّلَاحَ بَعْدُ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَاتِلْهُمْ. قَالَتْ: فَلَبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم لَأْمَتَهُ وَأَذَّنْ فِي النَّاسِ بِالرَّحِيلِ، قَالَتْ: فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم عَلَى بَنِي غَنْمٍ وَهُمْ جِيرَانُ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟» ، قَالُوا: مَرَّ بِنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ دِحْيَةُ تُشْبِهُ لِحْيَتُهُ وَسِنَةُ وَجْهِهِ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَتْ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَلَمَّا اشْتَدَّ حَصْرُهُمْ وَاشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَيْهِمْ قِيلَ لَهُمُ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، فَاسْتَشَارُوا أَبَا لُبَابَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُنْذِرِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنَّهُ الذَّبْحُ، فَقَالُوا: نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ: انْزِلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -[423]- فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم إِلَى سَعْدٍ فَحُمِلَ عَلَى حِمَارٍ عَلَيْهِ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ وَحَفَّ بِهِ قَوْمُهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا أَبَا عُمَرَ، حُلَفَاؤُكَ وَمَوَالِيكَ وَأَهْلُ النِّكَابَةِ وَمَنْ قَدْ عَلِمْتَ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُورِهِمُ الْتَفَتَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: قَدْ أَنَى لِي أَنْ لَا أُبَالِيَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ " قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: فَلَمَّا طَلَعَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم قَالَ: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ فَأَنْزِلُوهُ» ، فَقَالَ عُمَرُ: سَيِّدُنَا اللَّهُ، فَقَالَ: «أَنْزِلُوهُ» ، فَأَنْزَلُوهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «احْكُمْ فِيهِمْ» ، قَالَ: فَإِنِّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ، وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ» ، قَالَتْ: ثُمَّ دَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَبْقَيْتَ عَلَى نَبِيِّكَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا، وَإِنْ كُنْتَ قَطَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ» ، قَالَتْ: فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ وَقَدْ كَانَ بَرَأَ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا مِثْلَ الْخَرْصِ، وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ الَّتِي ضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم، قَالَتْ فَحَضَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، قَالَتْ: فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنِّي لَأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا: كَمَا قَالَ اللَّهُ: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] قَالَ: فَقُلْتُ: فَكَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنُهُ لَا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ "