وكان أبو العباس الطوسي سيئ الرأي في أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة يعرف ذلك، فدخل أبو حنيفة على أبي جعفر المنصور يوماً، وكثر للناس عنده، فقال الطوسي: اليوم أقتل أبا حنيفة.
فأقبل عليه، فقال: يا أبا حنيفة، إن أمير المؤمنين يدعو الرجل منا، فيأمره بضرب عنق الرجل، لا يدري هو، أيسعه أن يضرب؟ فقال: يا ابا العباس، أمير المؤمنين يأمر بالحق أو بالباطل؟ قال: بالحق.
قال: أنفذ الحق حيث كان، ولا تسأل عنه.
ثم قال أبو حنيفة لمن قرب منه: إن هذا أراد أن يوثقني فربطته.
وكان أبو حنيفة، رحمه الله، كثير البر بوالدته، والقيام بواجب حقها، وإدخال السرور عليها، وعدم المخالفة لها.
حدث حجر بن عبد الجبار الحضرمي، رحمه الله تعالى، قال: كان في مسجدنا قاض يُقال له زرعة، ينسب مسجدنا إليه، وهو مسجد الحضرميين، فأردت أم أبي حنيفة أن تستفتي في شيء، فأفتاها أبو حنيفة، فلم تقبل، وقالت: ما أقبل إلا ما يقوله زرعة القاص.
فجاء بها أبو حنيفة إلى زرعة، فقال: هذه أمي تستفتيك في كذا وكذا.
فقال: أنت أعلم مني وأفقه، فأفتها أنت.
فقال أبو حنيفة: قد أفتيتها بكذا وكذا.
فقال زرعة: القول كما قال أبو حنيفة.
فرضيت وانصرفت.
وفي رواية، أن زرعة قال لها: أفتيك ومعك فقيه الكوفة! فقال أبو حنيفة: أفتها بكذا وكذا. فأفتاها فرضيت.
وفي بره بوالديه وتعظيمه لشيخه حماد يقول بعضهم:
نُعمَانُ كان أبرَّ الناسِ كُلِّهمُ ... بوَالدَيْه وبالأُسْتاذ حَمَّادِ
مَا مَدَّ رِجْليْهِ يوماً نحْو منزلِه ... ودُونَه سِكَكٌ سَبْعٌ كأطْوَادِ
روى أن أبا حنيفة قال: ما مددت رجلي نحو دار أستاذي حماد؛ إجلالاً له. وكان بين داره وداره سبع سِكك.
وعن ابن المبارك، أنه قال: رأيت الحسن بن عمار آخذاً بركاب أبي حنيفة، وهو يقول: والله ما أدركت أحداً تكلم في الفقه أبلغ، ولا أصبر، ولا أحضر جواباً منك، وإنك لسيد من تكلم في وقتك غير مدافع، ولا يتكلمون فيك إلا حسداً.
وكان ابن داود يقول: الناس في أبي حنيفة حاسد، وجاهل، وأحسنهم عندي حالاً الجاهل.
وحدث سفيان بن وكيع، قال سمعت أبي يقول: دخلت على أبي حنيفة، فرأيته مُطرقاً مُفكراً، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: أقبلت من عند شريك.
فرفع رأسه وأنشد يقول:
إن يَحسُدُوني فإنيِّ غيرُ لائِمِهمْ ... قَبْلي مِن الناس أهْلُ الفضْلِ قد حُسِدوا
فدَامَ لي ولهم مَا بِي وما بِهِمُ ... ومَات أكثرُنا غَيظاً بما يَجِدُ
قال: وأظنه كان بلغه عنه شيء.
وذكر لمحمد بن الحسن ما يجري الناس من الحسد لأبي حنيفة فقال:
مُحَسَّدُون وشَرُّ الناسِ مَنْزِلَةً ... مَن عاش في الناسِ يَوْماً غيرَ مَحْسودِ
فصل
في ذكر بعض الأمور التي اعترض بها الحُساد على أبي حنيفة، رضي الله عنه، وشنعوا بها عليه، وما أجيب به عنه، وذكر بعض ما مدح به من الشعر، وما نُسب إليه، وما تمثل به منه، وغير ذلك
قال قاضي القضاة ابن خلكان، في " وفيات الأعيان "، بعد أن ذكر طرفاً صالحاً من مناقب الإمام رضي الله تعالى عنه: ومناقبه وفضائله كثيرة، وقد ذكر الخطيب في " تاريخه " منها شيئاً كثيراً، ثم أعقب ذلك بذكر ما كان الأليق تركه والإضراب عنه، فمثل هذا الامام لا يشك في دينه، ولا في ورعه وتحفظه، ولم يكن يُعاب بشيء سوى قلة العربية.
فمن ذلك ما روى أن أبا عمرو بن العلاء سأله عن القتل بالمثقل هل يستوجب القود أم لا؟ فقال: لا. كما هو قاعدة مذهبه، خِلافاً للإمام الشافعي.
فقال له أبو عمرو: ولو قتله بحجر المنجنيق؟.
فقال: ولو قتله بأبا قُبيس.
يعني الجبل المُطل على مكة، حرسها الله تعالى.
قال: وقد اعتذروا عن أبي حنيفة بأنه قال ذلك على لغة من يقول: إن الكلمات الست المُعربة بالحروف " أبُوهُ، وأخوه، وحموه، وهنوه، وفوه، وذو مال " إن إعرابها يكون الأحوال بالألف. وأنشدوا على ذلك:
إنَّ أباهَا وأبا أباهَا ... قد بَلغا في المَجْد غَايتاهَا
وهي لغة الكوفيين، وأبو حنيفة من أهل الكوفة، فهي لغته. انتهى كلام ابن خلكان.