وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: أول ما بُدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي، الرؤيا الصادقة في النوم، وكان لا يرى رُؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُبح، وحُبِّب إليه الخَلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع لخديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحقُّ. رواه البخاري ومسلم.
وكان مبدأ النبوة فيما ذُكر يوم الاثنين ثامن شهر ربيع الأول.
ثم حصره أهل مكة هو وأهل بيته في الشعب ثلاث سنين، ثم خرج من الشعب وله تسع وأربعون سنة.
وبعد ذلك بثمانية أشهر وأحد وعشرين يوماً، مات عمُّه أبُو طالب.
وماتت خديجة، رضي الله تعالى عنها بعد أبي طالب بثلاثة أيام.
وكانت أول من آمن بما جاء به، ثم آمن أبو بكر، ثمّ علي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وبلال رضي الله تعالى عنهم، ثم بعد هؤلاء عمرو بن عبسة السلمي، وخالد بن سعيد ابن العاص، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وطلحة بن عُبيد الله ابن عثمان، ثم كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه تمام الأربعين إسلاماً. ذكر ذلك ابنُ حَزْم في " مختصر السيرة ".
ولما بلغ خمسين سنة وثلاثة أشهر قدِم عليه جِنُّ نصيبين فأسلموا.
ولما بلغ 'حدى وخمسين سنة وتسعة أشهر، أسري به إلى بيت المقدس.
روى البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أُسري به، قال: " بينما أنا في الحطيم " - وربما قال: " في الحجر مضطجع " - ومنهم من قال: " بين النائم واليقظان "، " إذ أتاني آت "، قال: فَسمعته يقول: " فشق ما بين هذه إلى هذه ". فقيل للجارود: ما يَعنى به؟ قال: من ثغرة نحره إلى شِعرته. وسمعته يقول: من قصه إلى شِعرته. " فاستخرج قلبي ثم أُتيت بطشت من ذهب مملوءة إيماناً، فغسل قلبي ثم حُشي، ثم دُعي بدابة دون البغل وفوق الحمار " فقال له الجارود: هو البراق يا أبا حمزة؟ فقال أنس: نعم، يضع خطوة عند أقصى طرفه " فحملت عليه، فانطلق بي جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به، فنعم المجيء جاء " الحديث بطوله. ورأى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ورأى من آيات ربه الكبرى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى، وأوحى إليه ما أوحى، وفرضت الصلاة تلك الليلة، ولما أصبح قص على قريش ما رأى.
وروى البخاري، ومسلم، والترمذي عن جابر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: " لما كذبني قريش قُمت إلى الحجر الأسود، فجلا الله لي بيت المقدس، فطفقت أُخبرهم عن آياته، وأنا أنظر إليه ".
وقد اختلف الناس في كيفية الإسراء، فالأكثرون من طوائف المسلمين متفقون على أنه بجسده صلى الله عليه وسلم، والأقلون قالوا بروحه.
حكى الطبري في " تفسيره " عن حذيفة، أنه قال: كل ذلك رؤيا. وحكى هذا القول أيضاً عن عائشة، وعن معاوية رضي الله تعالى عنهما.
ومنهم من قال بجسده إلى بيت المقدس، ومن هناك إلى السموات السبع بروحه.
قال الصلاح الصفدي، بعد أن نقل ما ذكرناه من الأقوال، قلت: والصحيح الأول؛ لأنه قد صح أن قريشاً كذبته، ولو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت رُؤيا، لما كُذِّب، ولا أنكر ذلك على غيره، فضلاً عنه؛ لأن آحاد الناس يرون في منامهم أنهم ارتقوا إلى السموات. وما ذلك ببدع.
قال: أنشدني لنفسه الشيخ الإمام شهاب الدين أبو الثناء محمود بن سلمان بن فهد الحلبي الكاتب رحمه الله تعالى قراءة منى عليه، من جملة قصيدة طويلة، من جُملة مُجلدة فيها مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أُسْرى إلى الأقْصَى بجسمِكَ يَقْظةً ... لا في المنام فَيقبلُ التَّأويلاَ
إذ أنْكرتْه قريشُ قبل ولم تكنْ ... لِترَى المَهُولَ من المنامِ مَهُولا
ولما بلغ صلى الله عليه وسلم ثلاثاً وخمسين سنة هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ومولى أبي بكر عامر بن فُهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي.
قال الحافظ عبد الغني، وغيره: وهو كافر، ولم نعرف له إسلاماً.