الأماكن، والنزول فى غير أوطانها؛ فإنك إن لم تتعاط قريض الشعر المنظوم، ولم تتكلّف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بذلك أحد، وإن تكلّفته ولم تكن حاذقا مطبوعا، ولا محكما لشأنك بصيرا عابك من أنت أقلّ عيبا منه، وزرى عليك من هو دونك.
فإن ابتليت بتكلّف «1» القول، وتعاطى الصناعة، ولم تسمح لك الطبيعة فى أوّل وهلة، وتعصّى عليك بعد إجالة الفكرة، فلا تعجل، ودعه سحابة يومك ولا تضجر، وأمهلة سواد ليلتك، وعاوده عند نشاطك؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن «2» كانت هناك طبيعة وجريت من الصناعة على عرق؛ وهى- المنزلة الثانية.
فإن تمنّع عليك بعد ذلك مع ترويح الخاطر، وطول الإمهال، فالمنزلة «3» الثالثة أن تتحوّل عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفّها عليك؛ فإنك لم تشتهها إلّا وبينكما نسب، والشىء لا يحنّ إلا إلى ما شاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون فى طبقات؛ فإنّ النفوس لا تجود بمكنونها، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود مع الرّغبة والمحبّة.
وينبغى أن تعرف أقدار المعانى، فتوازن بينها وبين أوزان المستمعين، وبين أقدار الحالات؛ فتجعل لكلّ طبقة كلاما، ولكلّ حال مقاما، حتى تقسم أقدار المعانى على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات.
واعلم أنّ المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكلّ مقام من المقال؛ فإن كنت متكلّما، أو احتجت إلى عمل خطبة لبعض من تصلح له الخطب، أو قصيدة لبعض ما يراد له القصيد، فتخطّ ألفاظ المتكلمين، مثل الجسم والعرض والكون والتأليف والجوهر، فإنّ ذلك هجنة.