خطيب اللسان، بعيد الغور، خفيف الفور، يمري من ثبج بحر، ويتلقى جميع أموره بصدر ونحر، فما هنأني عيش، ولا طاب لي شرب، ولا فارقني وسواس حتى كان منه ما كان، فقلت له: كيف استحالت الحال بعد توكدها وتعهدها؟ قال: طلب من الحظوة عند ركن الدولة ما كنت أنا قد أفنيت شبابي، وعمري، وذخري له، فلم تسمح نفسي أن أفرج له عنه، ومنازل الأولياء عند الملوك محوطة بالغيرة الشديدة، والحمية المشتعلة، وليست الغيرة عليها إلا فوق الغيرة على السراري الحظيات، وبنات العم الموافقات، وفوق غيرة الضرة من الضرة، وإن الذي يعتري الرجال في هذه الأحوال أزيد من الذي يعتري النساء، إلا أن الرجال لا يتواصون بترك هذا الخلق، ولا يغير بعضهم بعضاً باستعماله، فقلت له: أفكان يرتقي لو بقي إلى أكثر من الحجابة التي أنت مسلم لها إليه، وغير منازع له في شيء منها؟ فقال: ما أسلم صدرك، وأصدأ نصلك، الرجل كان يحدث نفسه بالوزارة، ويوسوس إلى صاحبه بإثارة المال من الوجوه المجهولة، أفكان يجوز لي أن أحلم بهذا في النوم، ثم أتمتع بالعيش باليقظة؟ لا والله! وبعد فأنا كما قال الشاعر:
ولست مكلفاً أبدا صديقاً ... معاشرتي على خلق ممض
ولا أن يستقيم على اعوجاجي ... ويغفر بعض أحوالي لبعض
ولكني له عبد مطيع ... على علاته أرضى واغضي
حرير حين يلمسني صديقي ... حديد تحت ضرس رام عضي
فإن باشرتني فإليك أمري ... وإن باغضتني فإليك بغضي
وكما قال الآخر: