لا فقر في تاريخ النبي -عليه السلام-، لكنه الثراء الذي جعل أحمد بن حنبل يصف معظم مرويات كتب المغازي بأنها لا أصل لها، ولو كنا أمة فقيرة التاريخ لما قال شيئًا من ذلك، ولا أصبح لدينا من النقد ما يعتد به، وإذا رأيت أمة تهتم بالنقد أكثر من اهتمامها بالجمع فهي أمة تعي ماضيها وتحترم حاضرها، وإذا رأيت أمة تغفل النقد وتجمع ما هب ودب، فهي لا تعي ولا تحترم شيئًا من الماضي ولا الحاضر.
أمتنا هي الوحيدة أمة السند، وكلمات ابن حنبل تعني بالتأكيد أن غالب مرويات تلك المواضيع ضعيفة السند، فالمتتبع لمرويات السيرة والمغازي وكتبها (موضوعنا) يجد أنها تحتوي على القليل من الصحيح مقارنة بمرويات الصحاح والسنن والمسانيد، كما يشعر بأهمية استخراج ما في تلك الكتب العظيمة من مرويات تهتم بالسير والمغازي.
وقد وظف المستشرقون والعلمانيون مرويات مكذوبة وضعيفة في السيرة للطعن في نبينا - صلى الله عليه وسلم - والطعن في رسالته، وجعلوها شوكة في خاصرة تاريخنا، يشوشون به على الدعاة والعلماء ويشوهون بها صورة الإسلام، وكانوا يستغلون كل حرف من حروف السيرة في ذلك، ونظرا لتعلق هذا التاريخ بالوحي والنبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ فمن المنتظر أن تبقى سيرته -عليه السلام- نقية كأحاديث الأحكام تمامًا؛ لأن القبول بالمرويات الضعيفة والمكذوبة يعني تشويها لتلك الفترة البيضاء.
لذا كان هذا البحث، والذي يمثل من ناحية الحجم جزعًا صغيرًا مقارنة بالمرويات الضعيفة الكثيرة، هذا البحث يمثل الحلقة الثانية من سلسلة تستهدف فرز المرويات الصحيحة من الضعيفة، بدأت بكتاب (السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة) والذي زاوجت فيه بين المرويات الصحيحية وربطها بأسلوب أدبي سدًا للفراغات خاصة في المرحلة المكية، نظرًا لكونها مرحلة عملية بالدرجة الأولى، تتكيء على تجذير العقيدة أكثر من الأمور التشريعية التي تتابعت