وإنما في الأثر المروي عنه أنه ركب راحلته وقصد المدينة، وليس في ذلك دليل على أنه جرد النية للقبر (فقط) ولو فرض أنه لم يقصد إلا القبر فقط، ولم يقصد الصلاة والسلام في المسجد كان ذلك على سبيل الاجتهاد منه، وكان ممن يحتج لفعله، وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) ولم ينقل عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم، مثل هذا الذي روي عن بلال، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (النساء 059)
والذي يظهر أن ما نقل عن بلال في هذا ليس بصحيح عنه، بل بعض ألفاظه الخبر يشهد ببطلانه عنه، وقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إنه كان إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((السلام عليك يا رسول الله السلام عليكم يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه)) وهذا صحيح ثابت عن ابن عمر، بل هو مجمع على حصته عنه، وليس فيه شد رحل ولا إعمال مطي،ومع هذا فقد قال ابن ابن أخيه الإمام الحافظ الفقيه أحد الأعلام أبو عثمان عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني: ما نعلم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (فعل) ذلك إلا ابن عمر، هكذا ذكره عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر.
وقد كان عبيد الله من سادات أهل المدينة وأشراف قريش فضلاً وعلماً وعبادة وحفظاً وإتقاناً، بل هو أحفظ آل عمر في زمانه وأثبتهم وأعلمهم، وقد قال ما قال فيما كان ابن عمر يفعله، مع أن مالكاً وغيره من العلماء صاروا إلى ما روي عن ابن عمر في ذلك.
فإذا كان هذا قول عبيد الله بن عمر فيما روي عن ابن عمر في ذلك، مع أنه أقرب بكثير مما روي عن بلال، فإن الذي فيه مجرد السلام عند القدوم من السفر، وليس فيه شد رحل، ولا إعمال مطي، ولا غير ذلك مما روي عن بلال، فكيف يقال فيما روي عن بلال من فعله المتضمن شد الرحال، وإعمال المطي، وغير ذلك مما ينقل عن غيره عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان والله أعلم.