اجتمع الأنصار أوسهم وخزرجهم لاختيار خليفة للمسلمين من بينهم، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، وسقيفة بني ساعدة هي الدار التي اعتادوا أن يعقدوا فيها اجتماعاتهم الهامة، فرأى الأنصار أن الخليفة لابد أن يكون منهم؛ لاعتبارات كثيرة، ولذلك سارعوا إلى هذا الاجتماع الطارئ.
هذا الموقف لابد وأنه سيثير أسئلة كثيرة في الذهن، وقد تسأل هذه الأسئلة بحسن نية؛ وذلك للمعرفة والفقه والاستفادة، وقد تسأل بسوء نية؛ للطعن والكيد والنيل من الصحابة ومن دولة الإسلام.
يبرز من هذه الأسئلة في هذا الموقف سؤالان هامان ركز عليهما المستشرقون وأتباعهم من العلمانيين سواء من أبناء الغرب أو الشرق أو من أبناء المسلمين، هذان السؤالان الغرض منهما الطعن في الأنصار، وسيتبع السؤالان لا محالة بأسئلة أخرى للطعن في المهاجرين وبقية الصحابة.
السؤال الأول: كيف تحرك الأنصار لاختيار خليفة في نفس يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أليس في قلوبهم حزن على نبيهم؟ يقول المستشرقون: إن الأنصار أرادوا الدنيا ورغبوا فيها وحرصوا عليها فتسارعوا إليها، ولم يردعهم المصاب الفادح الذي ألم بهم، وهذا السؤال أيضاً قد يتردد في أذهان بعض المؤمنين.
السؤال الثاني: لماذا أراد الأنصار الاستئثار بالخلافة دون المهاجرين، وأسرعوا إلى سقيفة بني ساعدة لترشيح رجل منهم؟ والحقيقة قبل أن نخوض في الإجابة عن هذين السؤالين الهامين جداً أود أن أقدم بتعريف للأنصار، فمن هم الأنصار؟ يبدو أن كثيراً من المسلمين لا يدركون قيمة الأنصار، والأنصار طائفة من المؤمنين اتصفت بصفات عجيبة، ومرت بمراحل تربوية معينة أنتجت في النهاية جيلاً من الرجال والنساء والأطفال من المستحيل أن يتكرروا في التاريخ بهذه الصورة، وفعلاً الأنصار ظاهرة فريدة؛ اتصفوا بصفات خاصة ظلت ملازمة لهم منذ أن أصبحوا أنصاراً، ومروا بهذه الصفات بكل مواقفهم، إلى أن انتهى الأنصار من المدينة، فالأنصار نسمة رقيقة حانية أقبلت على دولة الإسلام فأصابت من بركتها وخيرها على الأمة، ثم مضت النسمة ولم تأخذ شيئاً لنفسها، سبحان الله! الأنصار قدموا وقدموا وقدموا ولم يأخذوا شيئاً، وكلما جاءت الفرصة ليأخذوا يجعل الله أمراً آخر فيخرجون بلا شيء، يخرجون راضين بلا سخط ولا ضجر وكأن الله عز وجل أراد أن يدخر لهم كامل الأجر، ولا يعجل لهم شيئاً في دنياهم، إنهم الأنصار وما أدراك ما الأنصار؟ روى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله)، هذا حديث يلخص كل المسألة.
فلابد أن يعرف المسلمون قدر الأنصار قبل أن يخوضوا في أعراضهم، فالقضية قضية إيمان ونفاق، وقضية حب الله لعبد وبغض الله لعبد آخر، فالحذر الحذر من أي شبهة تغير على المؤمنين قلوبهم.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار).
وروى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: اللهم أنتم من أحب الناس إلي) قالها ثلاثاً.
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: (موعدكم الحوض)، وغير ذلك كثير من الأحاديث، وسيأتي -إن شاء الله- في أثناء المحاضرات أحاديث أخرى في حقهم.
هذا الحب العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار ومن الأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الصحابة جميعاً يجلون الأنصار ويقدرون قيمتهم، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرجت مع جرير بن عبد الله في سفر فكان يخدمني، وجرير بن عبد الله من أشراف قبيلة بجيلة ومن أعلام العرب، وكان له شأن كبير في الجزيرة قبل وبعد الإسلام، وفوق هذا فهو أسن وأكبر كثيراً من أنس بن مالك، هذا كله دفع أنس بن مالك أن يستنكر، ويستغرب، فقال أنس: لا تفعل، أي: كيف تخدمني؟ فقال جرير: إني قد رأيت الأنصار تصنع برسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً آليت أن لا أصحب أحداً منهم إلا خدمته.
وأنس من الأنصار، فإذاً: يخدمه جرير الشريف رضي الله عنهم أجمعين، هكذا هو وضع الأنصار وهذه هي قيمة الأنصار وسط الصحابة.
هذا التكريم والتبجيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة للأنصار لم يأت من فراغ، وإنما أتى لنوايا صادقة من الأنصار وأعمال متواصلة وأخلاق حسنة، ولو نظرت إلى تاريخ الأنصار وإلى حال الأنصار لوجدت صفة أساسية تمثل ركيزة في بناء الأنصاري، فكل أنصار