وفتنة أخرى من الفتن التي ثبت فيها الصديق رضي الله عنه وأرضاه وهي فتنة الفتور عن الطاعة: ثبت الصديق رضي الله عنه وأرضاه على الطاعة أياماً وشهوراً وسنوات حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وقد يظن ظان أن هذا الأمر بسيط وهين إلى جوار غيره من الفتن التي ذكرناها: فتنة المال والرئاسة والأولاد وترك الديار وغلبة أهل الباطل، فقد يظن ظان أن من ثبت في هذه الأمور الشديدة سيثبت حتماً في أمر الطاعة والعبادة؛ فهي أمور في يد كل مسلم يستطيع أن يصلي ويصوم ويزكي، وهذه بديهيات عند كثير من الناس، لكن والله إن هذه لمن أعظم الفتن، فقد يسهل على الإنسان أن يفعل شيئاً عظيماً مرة واحدة أو مرتين أو ثلاثاً في حياته، لكن أن يداوم على أفعال العبادة كل يوم بلا كلل ولا ملل ولا كسل فهذا يحتاج إلى قلب عظيم وإيمان كبير وعقل متيقظ ومنتبه، لا يقوى على ذلك إلا القليل من الرجال.
وقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه سيد هذا القليل بعد الأنبياء، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله! هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان)، يعني: أن بعض الناس يكون مكثراً في الصلاة فيدخل الجنة من باب الصلاة، وبعض الناس يكون مكثراً في الجهاد -والبديهي أنه مقل في بقية الأعمال أن هذا العمل أكثر من غيره في حياته- فيدخل من باب الجهاد وهكذا، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه: (ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟) يعني: هل ممكن أن ينادى أحد من كل الأبواب؛ لأنه يكثر من كل الأعمال؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم، وأرجو أن تكون منهم)؛ وذلك أن الصديق كان فعلاً مكثراً وبصفة مستديمة من كل أعمال الخير، وقد مر بنا من قبل كيف أنه أصبح صائماً ومتبعاً للجنازة وعائداً لمريض ومتصدقاً على مسكين، هكذا حياته كلها لا قعود ولا فتور، كان رضي الله عنه يتحرز جداً من فوات فريضة أو نافلة، روى أحمد وأبو داود والحاكم وصححه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: (متى توتر؟ قال: أول الليل بعد العتمة -أي: العشاء- قال: فأنت يا عمر؟! قال: آخر الليل، قال صلى الله عليه وسلم: أما أنت يا أبا بكر! فأخذت بالثقة -أي: بالحزم والاحتياط مخافة أن يفوت الوتر- وأما أنت يا عمر! فأخذت بالقوة)، أي: بالعزيمة على الاستيقاظ قبل طلوع الفجر لصلاة قيام الليل ثم الوتر.
والصديق رضي الله عنه وأرضاه لا يتخيل أن يفوته الوتر، وماذا يحدث لو استيقظ عند صلاة الفجر دون أن يصلي الوتر؟ يكون في حقه كارثة؛ لذلك يأخذ نفسه بالحزم فيصليه أول الليل ثم إذا شاء الله له أن يستيقظ قام وصلى من الليل ما شاء أن يصلي ولا يعيد الوتر، بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان يأخذ بالعزيمة، فهو يعلم علم اليقين أنه سيستيقظ ليصلي، إنهما منهجان مختلفان ولكنهما من أروع مناهج الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
ومع حرصه وطاعته ومثابرته وثباته على أمر الدين رضي الله عنه وأرضاه كان شديد التواضع لا ينظر إلى عمله، بل كان دائم الاستقلال له، فقد كان يقول: والله! لوددت أني كنت هذه الشجرة تؤكل وتعضد، أي: تقطع.
وروى الحاكم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: دخل أبو بكر حائطاً وإذا بطائر في ظل شجرة، فتنفس أبو بكر الصعداء ثم قال: طوبى لك يا طير! تأكل من الشجر وتستظل بالشجر وتصير إلى غير حساب، يا ليت أبا بكر مثلك! سبحان الله! أبو بكر يقول هذا الكلام؟ وكان يقول إذا مدح: اللهم أنت أعلم مني بنفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، فرضي الله عن الصديق وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعين.