وفتنة أخرى من الفتن التي تعرض لها الصديق رضي الله عنه وأرضاه كانت فتنة ترك الديار والأوطان، وترك الوطن فتنة عظيمة، فكم من الذكريات وكم من الأهل وكم من الأصحاب وكم من الأحباب؟ فترك الوطن فعلاً فتنة عظيمة ولاسيما إذا كان الرجل صاحب مكانة وكثير مال كـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه؛ فـ الصديق كان تاجراً وأوضاعه مستقرة وتجارته رابحة، وها هو يترك الاستقرار والراحة وينطلق مهاجراً إلى أرض مجهولة وأقوام غريبين، ثم أي البلاد يترك؟ إنه يترك مكة المكرمة التي زادها الله تكريماً وتعظيماً وتشريفاً، يترك البلد الحرام ويترك البيت الحرام ويترك أشرف بقعة في الأرض، روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف عند خروجه من مكة مهاجراً إلى المدينة يقول: (والله! إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت).
نحن نرى كيف أن الواحد يكون صعباً عليه أنه ينتقل من عمله إلى بلد آخر، بل يعده نوعاً من العقاب أن ينقل من المكان الذي يعمل فيه إلى مكان بعيد، كأن ينقل من جنوب البلد الذي هو ساكن فيه إلى شمالها بعيداً عن المكان الذي هو فيه.
والصديق رضي الله عنه وأرضاه مع عظم تجارته واستقراره هاجر مرتين من هذه البقعة المشرفة إلى غيرها من بقاع الأرض، الهجرة الأولى كانت إلى الحبشة، وقد تحدثنا عنها في موقف سابق، وذكرنا أن ابن الدغنة سيد قبيلة القارة أجاره وأعاده إلى مكة، وقد كان الصديق في هذه الهجرة متجهاً إلى بلاد بعيدة عبر الصحراء والبحار إلى قوم لا يتكلمون العربية وإلى بلد لم يألف العادات المكية.
الهجرة الثانية كانت إلى يثرب والتي سميت بعد ذلك بالمدينة المنورة لأنه نورها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها، وقد تحدثت سابقاً عن فقرات من هذه الهجرة المباركة، وفيها برز الدور العظيم للصديق سواء في الإعداد قبل الهجرة أو أثناء الهجرة، وسواء في المساعدة المادية أو المعنوية وسواء في التضحية بالنفس أو بالمال أو بالجهد أو بالوقت، وقد كان الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الهجرة ثاني اثنين، وهذا يكفيه أن يكون ثانياً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: الديار والأوطان والأملاك والأعمال مهما تعاظمت ما وقفت أبداً أمام إيمان الصديق رضي الله عنه وأرضاه على ثقلها، إنها فتنة عارضة ثبت فيها الصديق ثباته المعهود.