وتعالوا نرى جانباً آخر من إنكار الذات عند الصديق رضي الله عنه وأرضاه وأين حظ نفسه في أن يرى مكانه؟ أو في أن يشار إليه أنه فلان، حتى وهو خليفة وأعلى رأس في الدولة: ذكر له ذات مرة امرأة نذرت أن تحج وهي صامتة لا تتكلم، فلم يرسل إليها أحداً، ولم يرسل في طلبها، بل ذهب إليها بنفسه وهو الخليفة، فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، وهي لا تعرفه، فتريد أن تعرف من هو فقالت: من أنت؟ قال: أنا امرؤ من المهاجرين، سبحان الله! هكذا بهذا التجهيل الكامل لشخصيته وهو الخليفة، قال: أنا امرؤ من المهاجرين، قالت: أي المهاجرين؟ قال: من قريش، قالت: من أي قريش أنت؟ قال: إنك لسئول، أنا أبو بكر، فعرفت أنه الخليفة، لكنها لم تفزع، وكيف تفزع وهي ترى هذا التواضع من الصديق رضي الله عنه وأرضاه؟ لكن شجعها تواضعه أن تسأله سؤالاً كان يشغلها، فقالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية؟ قال: بقاؤكم عليه ما استقام به أئمتكم، قالت: وما الأئمة؟ قال: أما كان لقومك رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم؟ قالت: بلى، قال: فهم أولئك على الناس، يعني: الصديق جعل بقاء الأمر الصالح بصلاح الأئمة والقواد، مثل الذي قال لـ عمر: عففت فعفت الرعية.
الشاهد من القصة: عدم سعي الصديق لإظهار نفسه حتى مع كونه خليفة.