وهذا حادث آخر يوضح لين جانب الصديق رضي الله عنه وأرضاه مع من قاتله أكثر من عشرين سنة: روى مسلم عن أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه: أنا أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها.
وهذا الكلام يدور بعد صلح الحديبية، يعني: قبل فتح مكة، وكان في ذلك الوقت أبو سفيان كافراً، فـ سلمان وصهيب وبلال يريدون أن يغيظوا أبا سفيان بهذه الكلمة، فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ انظر مع كل هذا القتال الذي دار بينهم سنوات وسنوات وهذا الطرد والتشريد والتعذيب الذي حدث في مكة حتى هاجروا إلى المدينة ومع ذلك هو في لين جانبه وفي رقة قلبه يحاول أن يقرب قلب أبي سفيان إلى الإسلام، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟) يعني: أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه قد يكون قال كلمة أغضبت سلمان وصهيب وبلالاً.
قال: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبتك ربك، فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه! أغضبتكم؟) مع أن ظاهر الأمر أن الحق مع أبي بكر الصديق لكنه يستسمح هؤلاء الإخوة، ويريد أن تكون صفحته بيضاء، قال: (يا إخوتاه! أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخي!).
ولما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الأسارى في موقعة بدر ماذا كان يرى في أولئك الذين عذبوهم وأخذوا أموالهم وطردوهم من ديارهم وحرصوا على حربهم وكادوا يقتلونهم في بدر لولا أن من الله على المؤمنين بالنصر؟ ماذا كان رأيه؟ انظر إليه وكأنه لا يتحدث عن الأسارى، بل وكأنه يتحدث عن أصحابه وأحبابه، لقد قال الصديق: (يا رسول الله! هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه قوة لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً).
أما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان جوابه مختلفاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترى يا ابن الخطاب؟!) وعمر بن الخطاب كما تعلمون ملهم ومحدث ومسدد الرأي وفيه شدة واضحة على الكفر وأهله، وهي شدة محمودة في زمان الحرب، بل إن رأيه كان هو الرأي الذي أراده الله عز وجل، ووافق فيه عمر ما أراد الله عز وجل.
يروي عمر بن الخطاب فيقول: (قلت: والله! ما أرى ما رأى أبو بكر - هكذا في صراحة -رأي أبي بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان -وذكر رجلاً قريباً له- فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم).
فـ عمر بن الخطاب رأيه في هذا مختلف عن رأي أبي بكر الصديق، ولكن كلاهما حريص على الدين، متين في الإسلام، قريب كل منهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهما مختلفان في الطبيعة النفسية، فـ أبو بكر رقيق الطباع يغلب عليه العفو والصفح، وعمر بن الخطاب شديد في الحق يغلب عليه الانتصار بعد الظلم.
قال عمر: فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت، وأخذ منهم الفداء.
وفي هذا تقارب شديد في الطباع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وإن كان الصواب في هذا الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لا نقوله نحن بل قاله رب العالمين.
وانظر إلى عمر كيف يصف الموقف يقول: (فلما كان من الغد غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله! أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت لبكائكما) إن عمر عملاق آخر صنعه الإسلام، رقة متناهية مختفية، ففيه شدة ظاهرة وفيه قلب يذوب ذوباناً في حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضع جم وأدب عظيم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء؛ فقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، وأشار إلى شجرة قريبة) ولماذا العذاب؟ وكأ