هذه النفس الرقيقة والقلب الخاشع والروح الطاهرة النقية والطبيعة الهينة اللينة تفسر لنا كثيراً من مواقف أبي بكر العجيبة رضي الله عنه وأرضاه، أخرج الإمام أحمد رحمه الله بسند حسن عن ربيعة الأسلمي رضي الله عنه قال: جرى بيني وبين أبي بكر كلام.
يعني: كلام فيه شيء من الحدة، فقال لي كلمة كرهتها وندم.
وهذا الكلام يدور في المدينة، وأبو بكر هو المستشار الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: بلغة العصر: نائب الرئيس مباشرة، وربيعة الأسلمي هو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر كلمة كرهها ربيعة، ويبدو أن الخطأ كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وأدرك ذلك، ويحدث أن يخطئ البشر مهما علا قدرهم وسمت أخلاقهم، لكنه ثاب إلى رشده بسرعة عجيبة وشعر بالندم كما قال ربيعة وهو يصف الموقف: فقال لي كلمة كرهتها وندم، لكن هل وقف الندم عند حد الشعور به والتألم الداخلي فقط؟ أبداً.
رقة نفسه خرجت بهذا الندم إلى حيز العمل، وأسرع وهو نائب الرئيس يقول لـ ربيعة الخادم: يا ربيعة! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً، يعني: اشتمني يا ربيعة! كما شتمتك، يا ربيعة! رد علي مثلها؛ حتى يكون قصاصاً.
قال: قلت: لا أفعل.
وطبعاً ربيعة عنده أدب عظيم؛ لأنه تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: لا أفعل، فقال أبو بكر: لتقولن أو لأستعدين عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: لو ما شتمتني سأشتكيك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول ربيعة: فقلت: ما أنا بفاعل.
يعني مستحيل ما أقدر، فانطلق أبو بكر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وانطلقت أتلوه، يعني: فعلاً ذهب يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ربيعة: وجاء أناس من أسلم فقالوا لي: رحم الله أبا بكر، في أي شيء يستعدي عليك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال لك ما قال؟ وطبعاً من الناس من لا يفهم هذه الأبعاد النبيلة في نفس الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
فقلت: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر الصديق، هذا ثاني اثنين، هذا ذو شيبة في الإسلام.
ربيعة الأسلمي رجل واع وفاهم، والإسلام جعل الناس سواسية، لكنه لابد أيضاً أن ينزل الناس منازلهم، وأن يعطي كل ذي قدر قدره.
ثم يقول ربيعة: إياكم! لا يلتفت فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيغضب لغضبه، فيغضب الله عز وجل لغضبهما فيهلك ربيعة.
إنه مجتمع عجيب، وأعجب من هذا المجتمع الإسلام الذي غير في نفسيات القوم في سنوات معدودات حتى أصبحوا هكذا كالملائكة.
قالوا: ما تأمرنا؟ قال: ارجعوا.
يعني: اتركوني أنا مع أبي بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانطلق أبو بكر رضي الله عنه وتبعته حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث كما كان، فرفع إلي رأسه صلى الله عليه وسلم فقال: (يا ربيعة! ما لك والصديق؟) رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب إذا أحد أغضب الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
قال: (يا ربيعة! ما لك والصديق؟ فقلت: يا رسول الله! كان كذا وكذا بيني وبينه فقال لي كلمة كرهتها، فقال لي: قل كما قلت؛ حتى يكون قصاصاً، فأبيت، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل يا ربيعة! لا ترد عليه، ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر!) إنها حكمة نبوية راقية، فالمؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا بالبذي، ومن حكمته صلى الله عليه وسلم أن يرد الإساءة بالإحسان فيكسب قلوب الخلق، بل هذا هو تعليم ربنا لنا في كتابه الكريم حيث قال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل: غفر الله لك يا أبا بكر! فقلت: غفر الله لك يا أبا بكر! قال: فولى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي) وطبعاً! لابد أن نقدر موقف الصديق، فهذا الرجل صفحته بيضاء نقية لابد أن يحرص على نظافتها قدر الاستطاعة حتى ولو كانت كلمة بسيطة، فقال له الرجل: غفر الله لك يا أبا بكر! ومع ذلك هو يريد أن يبقي هذه الصفحة نقية طاهرة.
ومثل هذا لو أن واحداً يحافظ على صلاة الفجر كل يوم كل يوم ثم فاتته يوماً فيحز