وانظروا إلى موقف آخر من مواقفه رضي الله عنه وأرضاه في إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وسنأتي -إن شاء الله- إلى تفصيل هذا الأمر لما نتحدث عن حروب الردة بالتفصيل، لكن هنا نشير في عجالة إلى أمر من أمور الصديق في هذا البعث.
والحقيقة نحن نسمع بإنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما فلا يعطيه أحدنا قدره، وإنما يتخيل أنه مجرد جيش خرج ولم يلق قتالاً يذكر فأي عظمة في إخراجه؟ لكن بدراسة ملابسات إخراجه تدرك عظمة شخصية الصديق، وكيف أنه بهذا العمل الذي هو أول أعماله في خلافته قد وضع سياسة حكمه بوضوح والتي تعتمد في المقام الأول على اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم دون تردد ولا شك.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعد هذا البعث ليرسله لحرب الروم في شمال الجزيرة العربية، وقد أمر عليه أسامة بن زيد رضي الله عنهما ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره بعد، ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت جزيرة العرب جميعاً، وكانت الجزيرة العربية كلها تموج بالردة، ومع هذا أصر أبو بكر الصديق أن ينفذ بعث أسامة بن زيد إلى الروم، مع اعتراض كل الصحابة على ذلك الأمر؛ لأنه ليست لهم طاقة بحرب المرتدين فكيف يرسل جيشاً كاملاً لحرب الروم ويترك المرتدين.
والحق أنه قرار عجيب! وتخيل معي أن البلاد في حرب أهلية عنيفة وبها أكثر من عشر ثورات ضخمة ثم يرسل زعيم البلاد جيشاً لحرب دولة مجاورة كان قد أعده زعيم سابق، لكن أبا بكر الصديق كانت الأمور عنده في ذهنه في منتهى الوضوح، فما دام رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر فلا مجال للمخالفة حتى وإن لم تفهم مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى وإن لم تطلع على الحكمة والغاية، وهذه درجة إيمانية عالية جداً.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم بردة مسيلمة الكذاب في اليمامة في بني حنيفة وردة الأسود العنسي في اليمن، ومع ذلك قرر أن يرسل البعث إلى الشام، إذاً: لابد من الاتباع، فما دام قد أمر صلى الله عليه وسلم فالخير كل الخير فيما أمر، فأصر الصديق على إنفاذ البعث إلى الروم.
وجاءه الصحابة يجادلونه ويحاورونه، والصحابة على قدرهم الجليل لا يصلون إلى فهم الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فماذا قال لهم؟ قال لهم في ثبات عجيب: والله! لا أحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أن الطير والسباع من حول المدينة تخطفنا، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة.
إنه كلام شديد، ولما رأى الصحابة إصرار أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال بعضهم لـ عمر بن الخطاب: قل له: فليؤمر علينا غير أسامة.
يعني: أسامة صغير عمره ثماني عشرة سنة، وهذا أمر شديد ومهمة عظيمة، فذكر ذلك له ابن الخطاب رضي الله عنه، فانتفض أبو بكر وأخذ بلحية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أؤمر غير أمير رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ انظر إلى المعنى: الرسول صلى الله عليه وسلم اختار هذا فهذا هو الحق، ولحظات الغضب في حياته رضي الله عنه وأرضاه كانت قليلة جداً، وكانت في غالبها إذا انتهكت حرمة من حرمات الله عز وجل أو عطل أمر من أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبالفعل أنفذ جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وكان الخير في إنفاذه، وارتعبت قبائل الشمال وسكنت الروم، وظنوا أن المدينة في غاية القوة، يعني: أنه ليس معقولاً أن يخرج هذا الجيش الضخم الكبير إلى حرب الروم والمدينة ليست فيها حماية، لكن فعلاً المدينة لم يكن فيها حماية كافية، لكن هذا الخير كان من وراء إنفاذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأى الصحابة بعد ذلك بأعينهم صدق ظن الصديق رضي الله عنه وأرضاه، لكن الصديق كان يرى الحدث قبل وقوعه؛ لأنه كان يرى بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.