وسبحان الله! مع فداحة الشبهات السابقة إلا أن سهام المغرضين لا تنتهي.
فهذه شبهة جديدة خطيرة أطلقوها بخصوص هذه البيعة للصديق رضي الله عنه، هذا الشبهة الجديدة شنيعة تهدف إلى هدم الإسلام من أساسه، تولى كبرها طائفة من الشيعة، أرادوا الطعن في رموز الإسلام العظيمة بصورة تظهرهم كأسوأ ما يكون الرجال، هذا الشبهة الشنيعة هي: أن الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم أجمعين قد تآمروا على أمر الخلافة فيما بينهم، وساعدتهم في ذلك السيدة عائشة رضي الله عنها.
وحاشا لله من هذه الفرية.
يزعمون أنهم جميعاً قد تآمروا على أن يأخذ الصديق الخلافة في بادئ الأمر، ثم يعطيها بعد ذلك لـ عمر بن الخطاب ثم يعطيها عمر لـ أبي عبيدة بن الجراح، لكن أبا عبيدة مات قبل موت عمر، فلم تكتمل أطراف المؤامرة كما يقولون.
ويقولون: إن هذا التآمر ساعدت فيه السيدة عائشة بأن ادعت -كما يقولون- أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالصلاة إلى أبي بكر، بينما الحقيقة -في زعمهم- أنه أوصى بالصلاة لـ علي بن أبي طالب، وأخفت ذلك السيدة عائشة، وبذلك أوصلت الخلافة إلى الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
هذا الكلام جاء في كتابات المستشرق هنري لامانس ونقل عنه للأسف بعض المسلمين مثل كتاب غروب الخلافة الإسلامية للأستاذ علي الخربوطلي، فإنه ذكر هذه الفرية بتفاصيلها.
وهذا تصوير قبيح وشنيع لأعظم أجيال الإسلام، ولأرقى رموز الإسلام، فإذا كان هؤلاء السابقون على هذه الشاكلة فلا أمل فيمن جاء من بعدهم، وهذا هو بيت القصيد في الشبهة، فليست القضية اتهام رجل أو رجلين، ولكن القضية أعمق من ذلك بكثير، فهي فعلاً هدم لدين الإسلام من جذوره.
من جديد نقول: إن هؤلاء الطاعنين يقيسون الأحداث بمقاييس هذا العصر الذي نعيش فيه الآن، ويرون السياسة كما يرونها الآن: مؤامرات ودسائس ومكائد وخداع ونفاق وغش وتحايل، هذه هي السياسة التي يشاهدها الناس، وعلى هذا الأساس يقومون سياسة الإسلام في عهد الخلفاء، وما أدركوا أن الإسلام قدم أروع أنظمة السياسة، وأرقى الأمثلة للتطبيق العملي لهذه القواعد السياسية، فهم لا يتخيلون أن رجلاً نقياً مثل أبي بكر أو عمر يكون رجلاً سياسياً ناجحاً، يقولون: إما أنه رجل صالح وسياسي فاشل، وإما أنه سياسي ناجح ولكنه فشل في مجال الأخلاق.
لكن الشواهد تثبت حسن سياستهم، والشواهد أيضاً تثبت قيادتهم الحكيمة ليس لأوطانهم فقط، بل وللأرض جميعاً في زمانهم.
إذاً: في عرف العلمانيين والمستشرقين لابد لهؤلاء الساسة الناجحين أن يكونوا متآمرين، هذا ما شاهدوه في الواقع الآن، ولا يتخيلون أن توجد في هذا الماضي هذه الصورة النقية البهية للساسة المسلمين المهرة في سياستهم والأنقياء في قلوبهم، الذين يديرون الدنيا بحكمة وعيونهم على الآخرة، قال عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41]، فهذا يعتبر طرازاً أسطورياً بالنسبة للعلمانيين، لكنه حدث في عهد الإسلام، ويتكرر كثيراً في تاريخنا، ليس في عهد الصحابة فقط، ولكن في عصور أخرى كثيرة، وفي أماكن متعددة، ولابد لنا أن نفرغ الأوقات لاستخراج الكنوز الثمينة والرموز العظيمة، وما أكثرها! المهم أن المستشرقين ساروا وراء طوائف الشيعة المبتدعة لهذه الشبهة الخطيرة، شبهة التآمر بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة رضي الله عنهم وأرضاهم؛ لتبادل أدوار الخليفة، الواحد تلو الآخر، وذلك في زعمهم بمساعدة السيدة عائشة.
فتعالوا بنا لنرى هذه المؤامرة المزعومة كيف قيلت، وما هو الرد عليها: الأمر الأول: من هم المتهمون بالمؤامرة؟ ومن هم أعضاء المؤامرة كما يزعمون؟ الأول: هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وسبحان الله! أهذا الرجل الذي تحدثنا معه في هذه المحاضرات هو الذي يتآمر على الخلافة؟! أهذا الرجل الذي تحدثنا عن إيمانه وصدقه وورعه ورقة قلبه وسبقه وإنكاره لذاته وثباته هو الذي يتآمر؟! أهذا الرجل الذي كان يتورع عن لقمة واحدة حرام لا يتورع عن أكل حقوق أمة كاملة؟! روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـ أبي بكر الصديق غلاماً يخرج له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه.
والخراج: شيء يجعله السيد على عبده يؤديه إلى السيد كل يوم، وباقي الكسب يكون للعبد، فجاء هذا الغلام يوماً بشيء فأكل منه