فإذا كان الحق أنه صلى الله عليه وسلم لم يستخلف تصريحاً فلماذا لم يصرح صلى الله عليه وسلم بالاستخلاف واكتفى بالإشارة فقط؟ ولماذا لم يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين أمراً مباشراً بتعيين أبي بكر خليفة؟ وما هي الحكمة في ترك المسلمين دون تصريح باسم الخليفة.
وطبعاً الحكمة الإلهية الكاملة وراء هذا الحدث لا يعلمها إلا الله عز وجل، ولكننا نجتهد في فهم هذا الموقف وفق المعطيات التي معنا، والذي يبدو لي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يرد أن يصرح بذلك حتى يترك المسلمين يدبرون أمرهم في غيابه صلى الله عليه وسلم، فالمسلمون بعد هذه اللحظة التي فارق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم الحياة سيكون عليهم أن يديروا شئونهم بأنفسهم، لا يتلقون وحياً، وليس لهم عصمة.
فماذا يحدث لو اختار لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الآن بوضوح؟ كانت النتيجة أنه لن يكون هناك الحوار الذي دار وحدث في سقيفة بني ساعدة، طيب ما الفائدة من هذا الحوار؟ لقد تعلم المسلمون في هذا الوقت المبكر وعلموا المسلمين من بعدهم كيف يتم اختيار الخليفة؟ وكيف يكون أسلوب الحوار في مثل هذه المواقف؟ وكيف يمكن قبول وجهات النظر المختلفة؟ وما هي الحدود التي لا ينبغي تجاوزها؟ وهي حدود الشرع، وما الذي يجب أن تكون عليه النفوس حتى يتم اختيار الخليفة بطريقة سليمة؟ وما هي صفات الخليفة المنتخب؟ وما هي مقومات الصديق التي جعلته يتقدم غيره؟ ماذا يحدث لو أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختار لهم أبا بكر بالتصريح؟ ما الذي كان سيحدث؟ كان أبو بكر الصديق سيتولى أمور المسلمين إلى أجل ثم يموت، فماذا يفعل المسلمون بعد موته؟ يعني: أن المشكلة ستتأخر فقط؟ وكيف يختارون الخليفة الجديد وليس بين أيديهم رسول يختار لهم؟ الصحابة اكتمل نموهم رضوان الله عليهم أجمعين، وحان الآن وقت الفطام عن الوحي وعن العصمة، وآن لهم أن ينطلقوا في الحياة بالكتاب والسنة دون رسول حي بين أظهرهم، فإذا كان سيكتب على المسلمين أن يختاروا في يوم من الأيام خليفة بمفردهم فليكن هذا الجيل الراقي الرائع التقي الورع العاقل الحكيم من الصحابة هو الذي يختار؛ حتى يعطي القدوة والمثل لمن بعده من الناس.
هذا أول أمر يبدو لي في عدم تصريح الرسول عليه الصلاة والسلام في استخلاف أبي بكر.
الأمر الثاني الذي ألاحظه: هو أنه لو فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المسلمين فرضاً بالتصريح لكان لازماً عليهم أن يقبلوا به حتى وإن لم ترض نفوس بعض المسلمين به، فماذا ستكون النتيجة؟ في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القوم يخضعون لكلامه عند الاختلاف؛ وذلك لمكانته العظيمة صلى الله عليه وسلم في قلوب الناس، ولعلمهم بالوحي الذي ينزل عليه، ولليقين الذي في قلوبهم من أنه معصوم صلى الله عليه وسلم.
أما الآن فإذا تولى أمورهم رجل منهم وليس برسول فمن الطبيعي جداً أن يحدث اختلاف في الرأي لا يفصل بوحي ولا بعصمة، وهنا سيقول الناس عن الخليفة: هو رجل ونحن رجال، وله رأي ولنا آراء، ففرض رجل من المسلمين على المسلمين دون اختيارهم سوف يسبب ضعفاً في مكانته لا محالة، أما الخليفة الذي ينتخب انتخاباً حقيقياً من شعبه وأتباعه فإنه يعطى قوة لا مثيل لها، والجميع يرضى به، والجميع يجتمع لرأيه، بل والجميع سيبحث عن المبررات لأفعاله، وسيفترض فيه حسن النوايا عند اختلاف الآراء والتباس الأمور، بل وقد يفتديه الجميع بأرواحهم، وكيف لا وهم الذين أتوا به حقيقة إلى هذا المكان؟ إذاً: الانتخاب الحقيقي الذي قام به المسلمون لـ أبي بكر الصديق أعطى له قوة حقيقية وقدرة واضحة على إدارة أمور البلاد، وأعطى له شرعية ما كانت لتكسر لحدث طارئ أو ظرف عابر مهما تعاظم هذا الحدث ومهما تغير هذا الظرف.
ونحن رأينا هذا الأمر في حياة الصديق أكثر من مرة؛ فكم من الأمور التي فعلها والقرارات التي أخذها كان من الممكن ألا تلقى هوى في قلوب الناس أو اقتناعاً في عقولهم، ولكن لكونهم اختاروه على علم وعلى بصيرة وثقة في إمكانياته وإيماناً بقدراته فإنهم كانوا ينصاعون لرأيه دون ثورة أو ضجر أو تقصير في الاتباع.
الأمر الثالث الهام: هو كون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرض أبا بكر فرضاً على الأمة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يريد أن يرسي قاعدة الانتخاب بين المسلمين، فإنه لو عين خليفة تصريحاً من ورائه لكانت سنة قد تطبق على عموم الأمة بعد ذلك، ولا يبقى أمام كل جيل إلا أن يقبل باستخلاف الخليفة مهما كان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الجيل الذي معه هو خير القرون وأنه ستأتي أجيال كثيرة أقل منه في القدر والكفاءة، فلو جعل الأمر في يد رجل واحد يستخلف رجلاً آخر لدخلت عوامل الهوى وعوامل الجهل وعوامل عدم الدراية في الاختيار، ولدفعت الأمة بكاملها الثمن، فهو صلى الله عليه وسلم بعدم استخلافه ق