إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على ذكرك، اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فمع الدرس العاشر من دروس الصديق رضي الله عنه وأرضاه، في الدرس السابق تحدثنا عن المبررات التي من أجلها أجمع الصحابة هذا الإجماع الفريد على اختيار الصديق خليفة للمسلمين، وذكرنا أنه رضي الله عنه كان أفضل الصحابة على الإطلاق بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم وبشهادة جميع الصحابة، وذكرنا شروط الخليفة في الإسلام، وكيف أنها تواترت أعظم ما تكون في الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وذكرنا كيف فاق غيره في الشجاعة، وكيف فاق غيره في العلم، وكيف فاق غيره في حسن الرأي، وكيف فاق غيره في العدالة وهكذا.
وكان الصديق رضي الله عنه وأرضاه بحق هو الرجل المناسب في المكان المناسب.
إذاً: كما ذكرنا في الدرس السابق فإن العقل والحكمة والمنطق كل ذلك كان يؤيد اختيار الصديق دون غيره من الصحابة ليكون خليفة المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفوق كل ما سبق فإنه كانت هناك رغبة حقيقية من رسول الله صلى الله عليه وسلم في استخلاف الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وظهرت هذه الرغبة في أحاديث كثيرة، وفي مواقف متعددة، من ذلك: ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمن الناس علي في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين باب إلا سد إلا باب أبي بكر)، والصحابة كانت تفتح لهم أبواب إلى المسجد النبوي الشريف، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر أن تسد جميع الأبواب إلا باب أبي بكر فقط.
قال العلماء: هذه إشارة إلى الخلافة؛ لأنه يخرج منه إلى الصلاة بالمسلمين كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم يخرج من بيته للصلاة بالمسلمين، وكذلك سيفعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وقد ورد لفظ آخر يزيد الأمر وضوحاً وهو: (سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر)، أخرج هذا اللفظ الترمذي عن عائشة رضي الله عنها والطبراني عن معاوية والبزار عن أنس رضي الله عنهم أجمعين.
وأخرج البخاري ومسلم عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ كأنها تقول: الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: إن لم تجديني فأتي أبا بكر).
قال الشافعي تعليقاً على هذا الحديث: في هذا الحديث الدليل على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
وفي حديث آخر أخرجه الحاكم وصححه عن أنس رضي الله عنه قال: (بعثني بنو المصطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سله: إلى من ندفع صدقاتنا بعدك؟ فأتيته فسألته فقال: إلى أبي بكر).
هذا الحديث يكاد يكون صريحاً؛ لأن الذي يأخذ الصدقات هو الخليفة.
وأيضاً أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه -أي: في مرض الموت الأخير-: ادعي لي أبا بكر وأخاك - عبد الرحمن - حتى أكتب كتاباً؛ فإني أخاف أن يتمنى متمن) أي: أخاف أن يطالب بالخلافة أحد من المسلمين، (ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، فهذا فيه تصريح أشد من رسول صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة: هذا قد يعتبر نصاً جلياً في استخلاف أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
لكن لماذا لم يكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً؟ القصة هذه توضحها رواية أخرى جاءت في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، روى أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (قال لي رسول الله صلى الله عليه