وهذا يصَّور مثلاً من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حيث كان أيُّ فرد من أفراد ذلك المجتمع يُدْلي برأيه حتى في أخطر القضايا، ولا يكون في شعوره احتمال غضب القائد الأعلى صلى الله عليه وسلم، ثم حصول ما يترتبَّ على ذلك من غضب من تدَّني سمعة ذلك المشير بخلاف رأي القائد، وتأخره في الرتبة، وتضرره في نفسه أو ماله إن هذه الحرية، التي ربَّى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه مكنت مجتمعهم من الاستفادة من عقول جميع أهل الرأي السديد، والمنطق الرشيد، فالقائد فيهم ينجح نجاحاً باهراً، وإن كان حديث السَّنَّ، لأنه لم يكن يفكر برأيه المجرَّد، أو آراء عصبةٍ مهيمنة عليه، قد تنظر لمصالحها الخاصَّة، قبل أن تنظر لمصلحة المسلمين العامةَّ، وإنما يفكرَّ بآراء جميع أفراد جنده وفد يحصل له الرأي السديد من أقلهَّم سمعة وأبعدهم منزلة من ذلك القائد؛ لأنه ليس هناك ما يحول بين أي فردٍ منهم والوصول برأيه إلى قائد جيشه (?).

ونلحظ عظمة التربية النبوية التي سرت في شخص الحُباب بن المنذر فجعلته يتأدب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم دون أن يُطلب رأيه، ليعرض الخطة التي لديه، لكن هذا تَّم بعد السُّؤُال العظيم، الذي قدَّمه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرّأي، والحرب، والمكيدة؟

إن هذا السُّؤال يوضح عظمة هذا الجوهر القياديَّ الفذَّ، الذي يعرف أين يتكلم ومتى يتكلمَّ بين يدي قائده، فإن كان الوحي هو الذي اختار هذا المنزل، فلأن يقدم، فتقطع عنقه أحبُّ إليه من أن يلفظ بكلمة واحدة وإن كان الرأي البشريُّ فلديه خطة جديدة كاملة بإستراتيجية جديدة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015