الْأَظْهَرُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ إجَابَتَهُ إجَابَةٌ لِلَّهِ وَهِيَ لَا تُبْطِلُ (وَالْمُشَاوَرَةِ) هَذَا وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ فَالْأُولَى تَقْدِيمُهُ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْنَا لَهُ أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُشَاوَرَةُ أَصْحَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ تَطْيِيبًا لِخَوَاطِرِهِمْ وَتَأْلِيفًا لَهُمْ لَا لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُمْ عِلْمًا أَوْ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ سَيِّدُ الْعَالَمِينَ وَقُدْوَةُ الْعَارِفِينَ.
(وَقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ) أَوْ الْحَيِّ (الْمُعْسِرِ) الْمُسْلِمِ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ بِهِ (وَإِثْبَاتِ عَمَلِهِ) أَيْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْطَعُهُ رَأْسًا فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَتْرُكُ بَعْضَ الْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ أَوْ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ الشَّرْعِيَّةِ (وَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ) ، وَلَوْ أَهْلَ الْأَرْضِ فَلَا يَفِرُّ مِنْهُمْ، إذْ مَنْصِبُهُ الشَّرِيفُ يَجِلُّ عَنْ أَنْ يَنْهَزِمَ (وَ) بِوُجُوبِ (تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ) ، إذْ سُكُوتُهُ عَلَى فِعْلِ أَمْرٍ تَقْرِيرٌ لَهُ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ فَيَلْزَمُ انْقِلَابُ الْحَرَامِ جَائِزًا.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ قِسْمَيْ الْحَرَامِ أَيْ عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْنَا فَمِنْ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ: (وَحُرْمَةِ الصَّدَقَتَيْنِ) عَطْفٌ عَلَى وُجُوبٍ أَيْ خُصَّ بِحُرْمَةِ الصَّدَقَةِ الْوَاجِبَةِ وَمِنْهَا الْكَفَّارَةُ وَالتَّطَوُّعُ (عَلَيْهِ) صَوْنًا لِمَنْصِبِهِ الشَّرِيفِ عَنْ الْإِذْلَالِ (وَعَلَى آلِهِ) بَنِي هَاشِمٍ فَقَطْ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ حُرْمَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْآلِ وَمَحَلُّ حُرْمَةِ الْفَرْضِ إنْ أُعْطُوا مِنْ الْفَيْءِ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ وَإِلَّا جَازَ إنْ أُضِرَّ الْفَقِيرُ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَصِلُوا إلَى حَدِّ أَكْلِ الْمَيْتَةِ (وَ) حُرْمَةِ (أَكْلِهِ كَثُومٍ) بِضَمِّ الْمُثَلَّثَةِ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَبَصَلٍ وَفُجْلٍ (أَوْ) أَكْلِهِ (مُتَّكِئًا) أَيْ مَائِلًا عَلَى شِقٍّ، وَقِيلَ مُتَرَبِّعًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِالشُّكْرِ (وَ) حُرْمَةِ (إمْسَاكِ كَارِهَتِهِ) فِي عِصْمَتِهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ طَلَاقُهَا؛ لِخَبَرِ «الْعَائِذَةِ الْقَائِلَةِ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك فَقَالَ: لَقَدْ اسْتَعَذْت بِمَعَاذٍ الْحَقِي بِأَهْلِك» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَاسْمُهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ وَقِيلَ: مُلَيْكَةُ اللَّيْثِيَّةُ
ـــــــــــــــــــــــــــــQ (قَوْلُهُ: الْأَظْهَرُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ) أَيْ سَوَاءٌ أَجَابَهُ الْمُصَلِّي بِنَحْوِ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ بِنَحْوِ مَا فَعَلْت الشَّيْءَ الْفُلَانِيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هَلْ فَعَلْته.
(قَوْلُهُ: فِي الْآرَاءِ وَالْحُرُوبِ) الْأَوْلَى فِي الْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُهِمَّاتِ، وَأَفَادَ بِهَذَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يُشَاوِرُ فِي الْآرَاءِ فِي الْحُرُوبِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَأَمَّا مَا فِيهِ حُكْمٌ فَلَا يُشَاوِرُ لِأَنَّهُ يُلْتَمَسُ الْعِلْمُ مِنْهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ أَعْلَمَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْهُ، وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ: إنَّ لَهُ أَنْ يُشَاوِرَ فِي الْأَحْكَامِ وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُولُ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الْآيَةَ، وَأَمَّا غَيْرُ الْأَحْكَامِ فَرُبَّمَا رَأَوْا بِأَعْيُنِهِمْ أَوْ سَمِعُوا بِآذَانِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَسْمَعْهُ فَإِنْ قُلْت: مَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يُشَاوِرُ فِي الْآرَاءِ لَا فِي الْأَحْكَامِ، يَرِدُ عَلَيْهِ مُشَاوَرَتُهُ فِي الْأَذَانِ وَفِعْلُهُ قَبْلَ الْوَحْيِ بِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ مُشَاوَرَتَهُ فِي الشَّرَائِعِ كَانَ جَائِزًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي غَيْرِ الشَّرَائِعِ فَقَطْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَذَانَ كَانَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ وَنُزُولَ قَوْله تَعَالَى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] كَانَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ وَالْمُشَاوَرَةُ فِي الشَّرَائِعِ كَانَتْ أَوَّلًا جَائِزَةً، ثُمَّ نُسِخَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ بِالْأَمْرِ بِالْمُشَاوَرَةِ فِي غَيْرِهَا فَقَطْ، كَذَا قَرَّرَ شَيْخُنَا.
(قَوْلُهُ: أَوْ الْحَيِّ) نَحْوُهُ فِي خش وعبق قَالَ بْن: وَهُوَ فِي عُهْدَتِهِمَا، إذْ لَمْ أَرَ مَنْ ذَكَرَ أَنَّ الْحَيَّ كَالْمَيِّتِ، وَظَاهِرُ نُصُوصِهِمْ وَظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِي ح وَالْمَوَّاقِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمَيِّتِ كَالْمُصَنِّفِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَحَادِيثِ الْمَذْكُورَةِ «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَعَلَيَّ وَإِلَيَّ» أَيْ فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ وَإِلَيَّ كَفَالَةُ عِيَالِهِ.
(قَوْلُهُ: الْمُعْسِرِ الْمُسْلِمِ) وَهَذَا كَانَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ الْفُتُوحَاتِ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِوُجُوبِ قَضَائِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ.
(قَوْلُهُ: وَمُصَابَرَةِ الْعَدُوِّ) أَيْ وَالصَّبْرِ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ بِخَوْفِ أُمَّتِهِ فَإِنَّهُ إذَا زَادَ الْعَدُوُّ عَلَى الضِّعْفِ لَمْ يَجِبْ الصَّبْرُ.
(قَوْلُهُ: إذْ مَنْصِبُهُ الشَّرِيفُ يَجِلُّ إلَخْ) أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالْعِصْمَةِ بِقَوْلِهِ {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] أَيْ مِنْ قَتْلِهِمْ لَك فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ شَجُّوا وَجْهَهُ وَكَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ، أَوْ أَنَّ الْعِصْمَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الشَّجِّ وَكَسْرِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالْعِصْمَةِ مِنْ الْقَتْلِ وَغَيْرِهِ
(قَوْلُهُ: وَالْمُعْتَمَدُ إلَخْ) قَالَ ح مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا، وَاَلَّذِي فِي التَّوْضِيحِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ أَنَّ الْمَشْهُورَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا اهـ اُنْظُرْ بْن.
(قَوْلُهُ: وَإِمْسَاكِ كَارِهَتِهِ) أَيْ إذَا كَانَتْ كَارِهَةً بَقَاءَهَا تَحْتَهُ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا كَرَاهَةُ ذَاتِهِ فَهُوَ كُفْرٌ تَبَيَّنَ بِمُجَرَّدِهِ.
(قَوْلُهُ: لَقَدْ اسْتَعَذْت بِمَعَاذٍ) أَيْ بِمَنْ يُسْتَعَاذُ بِهِ وَيُلْجَأُ إلَيْهِ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَوْلُهُ: بِمَعَاذٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ أَوْ اسْمُ مَكَان كَمَا فِي النِّهَايَةِ أَيْ تَحَصَّنْت بِمَلَاذٍ وَمَلْجَأٍ وَضَبَطَهُ الْقَسْطَلَّانِيُّ بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ بِاَلَّذِي يُسْتَعَاذُ بِهِ وَالْحَقِي بِأَهْلِك ثُلَاثِيٌّ هَمْزَتُهُ وَصْلٌ مِنْ لَحِقَ كَفَرِحَ، وَقَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ: كَوْنُهُ رُبَاعِيًّا بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْحَاءِ مِنْ أَلْحَقَ بِمَعْنَى لَحِقَ لُغَةً فِيهِ اهـ بْن.
(قَوْلُهُ: لِخَبَرِ الْعَائِذَةِ) رَاجِعٌ لِحُرْمَةِ إمْسَاكِ الْكَارِهَةِ وَجَعْلُهَا كَارِهَةً بِالنَّظَرِ لِلَفْظِهَا وَإِلَّا فَهِيَ مَعْذُورَةٌ لَا كَرَاهَةَ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا خُدِعَتْ لِغَفْلَةِ رَأْيِهَا وَكَانَتْ جَمِيلَةً جِدًّا فَغَارَتْ أُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَحْظَى بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَفُوتُهُنَّ كَثْرَةُ مُشَاهَدَةِ طَلْعَتِهِ وَرُؤْيَةُ عِبَادَتِهِ عِنْدَهُنَّ لَيْلًا وَمَا يُتْلَى فِي بُيُوتِهِنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةُ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، فَسَأَلَتْهُنَّ مَاذَا يُعْجِبُهُ؟ فَقُلْنَ لَهَا: يُعْجِبُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا حُجْرَتَهَا