يجب وما لا يجب في وجه الشرع فذلك من عهدته ومن تمام ما يتحصل به الحكم بالحق والعدل ومما أنزل الله وأما إذا كان التلقين بتنبيه أحد الخصمين على ما يدل على عدم إقراره بالحق واعترافه بما يجب عليه ونحو ذلك فهذا من أعظم المحرمات وليس الفاعل لهذا منزل نفسه منزلة الحكم بين الخصمين بل منزلة خصم ثالث أخرج نفسه من القضاء وأدخلها في الخصومة.
قوله: "والخوض معه في قضيته".
أقول: هذا من أقبح ما يفعله حكام الجور لأن التسوية بين الخصوم واجبة عليه فالخوض مع أحد الخصمين في قضيته مخالف لما هو واجب عليه من التسوية وعلى فرض أنه ما أراد إلا التحقيق فقد وقع في أمرين محظورين أحدهما إحراج صدر الخصم الآخر والثاني إدخال نفسه في التهمة فهذان الأمران منضمان إلى ما يحرم عليه من ترك التسوية.
قوله: "والحكم بعد الفتوى".
أقول: إن كان هذا الذي أفتى مظنة تهمة بتعصبه لما سبق به القول منه في فتواه كما يقع ذلك في كثير من طباع من سبق ذهنه إلى قول وتسارع فهمه إلى معنى فإنه بعد ذلك يجادل عنه ويناضل ويقوم ويقعد محاماة للناموس الطاغوتي وتقويما لصنم محبة الرفعة والغلبة والظهور فلا ينبغي تفويض أمر الحكم إليه بعد فتواه بل لا يحل تفويض شيء من أحكام الله إليه لأنه متعصب متعسف قد اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم وإن لم يكن المفتي بهذه المنزلة فلا مانع من توليه للحكم لأن ورعه وعلمه يزجرانه عن مخالفة الحق لتقويم حظ النفس.
قوله: "وحال تأذ".
أقول: إن كان هذا التأذي بما أصيب به يقتضى أن يقصر في البحث عن مسالك الحق وطرائق الحكم أو عن استيفاء ما يورده الخصوم من الحجج التي لهم وعليهم فهو ممنوع من هذه الحيثية لأنه مأمور بالحكم بالعدل والحق وقد حدث له ما لا يتمكن معه منهما تمكنا كاملا فيؤخر الحكم إلى وقت آخر وليس عليه أن يحكم قبل أن يتمكن من المقتضي للحكم أو بعد إن وجد المانع منه وهكذا إذا انتهى ما عرض له من التأذي إلى أن يقع في الغضب فيحكم وهو غضبان فإن ذلك لا يحل له كما ثبت في الصحيحين [البخاري "8158"، مسلم "16/1717"] ، وغيرهما [أبو داود "3589"، الترمذي "1334"، النسائي "8/237"، ابن ماجة "2316" [، من حديث أبي بكرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضين الحاكم بين اثنين وهو غضبان"، ولا يصح الاستدلال للجواز بما وقع منه صلى الله عليه وسلم من الحكم للزبير في شراج الحرة [البخاري "2359، 2360"، مسلم "2357"، أبو داود "2637"، الترمذي "1363"، النسائي "5409"، ابن ماجة ط2480"] ، بعد أن أحفظه خصمه أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم فلا يصح إلحاق غيره به وقد قيد حديث النهي عن الحكم حال الغضب بعض أهل العلم بما إذا كان الغضب لغير الله وأجيب عنه بأنه تأويل مخالف لظاهر الحديث بدون دليل يدل على التقييد.