قوله: "وأرض مكة".

أقول: أعلم أن الأصل في كل شيء أنه يجوز للمالك أن يتصرف فيه بما شاء من أنواع التصرفات كما يفيده قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، وإذا كانت هذه الأعيان المخلوقة الموجودة في الأرض لنفع الناس جاز لهم تملكها والتصرف فيها كيف شاؤا حتى يقوم الدليل الصحيح الناقل عن حكم الأصل فيجب الرجوع إليه والعمل به ولم يستدل المانعون من بيع أرض مكة إلا بقوله عز وجل: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: 25] ، وهذه الآية محتملة لأمرين أحدهما أن يراد المسجد فلا يكون فيها دليل للمستدل والأمر الثاني أن يراد ما هو أعم من ذلك والمحتمل لا يصلح الاستدلال به ولا تقوم به الحجة لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتفق عليه [البخاري "1588، 2058، 4282"، مسلم "439، 440/1351"] ، أن أسامة بن زيد قال للنبي صلى الله عليه وسلم أين تنزل غدا يا رسول الله؟ فقال: "وهل ترك لنا عقيل من رباع" فلو كان البيع باطلا لأبطله صلى الله عليه وسلم ولم ينفذه.

والحاصل أن البيع هو الذى كان عليه عمل أهل الجأهلية ثم عمل عليه أهل الإسلام بعدهم حتى قيل إن الجواز أمر مجمع عليه بين الصحابة لا يختلفون فيه فالقائلون بعدم الجواز إن جاؤا بدليل ينتهض للاحتجاج ويخلص عن شائبة الاحتمال فذاك ولكنهم لم يأتوا بشيء وأما ما يروى من نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع رباع مكة وعن إجارتها فعلى المستدل به أن يصححه وإلا كان وجوده كعدمه ومع ما ذكرنا مع أن البيع كان عليه عمل أهل الجأهلية الذي ثبت عنه صلى الله عليه وسلم تقريره وعدم إنكاره وعمل الصحابة رضي الله عنهم في عصره صلى الله عليه وسلم وبعد عصره فهو أيضا الذي عليه العمل من أهل الإسلام قرنا بعد قرن وعصرا بعد عصر فكيف يقبل في مثل هذا الأمر ما لا تقوم به الحجة ولا ينتهض لمعارضته ما هو دون ذلك بمسافات.

قوله: "وما لا نفع فيه مطلقا".

أقول: هذا قد أغنى عنه ما تقدم من قوله وبيع كل ذي نفع حلال جائز ولكنه أراد هنا أن يستوفي بيان ما لا يجوز بيعه مع أنه أخل بأشياء كثيرة وردت بالمنع من بيعها الأدلة الصحيحة ثم وجه عدم جواز بيع ما لا نفع فيه مطلقا هو كونه من أكل أموال الناس بالباطل ومن إضاعة المال وقد ورد النهي عن الأول في الكتاب العزيز وورد النهي عن الثاني في الأحاديث الصحيحة والاعتبار بالغالب فإن كان الغالب من الناس لا ينتفع بتلك العين لم يبعها فإن قلت قد تدعو حاجة البائع إلي البيع وحاجة المشتري إلي الشراء في الشيء الذى لا نفع فيه عند غالب الناس؟ قلت: قد صار بهذه الحاجة إلي بيعه وشرائه ذا نفع فيجوز بيعه وليس في هذا من الدور الذى زعمه الجلال في شرحه شيء لأن جواز البيع ترتب على الحاجة ولم تترتب الحاجة على جواز البيع وهكذا ترتب عدم جواز بيعه على عدم نفعه ولم يترتب عدم نفعه على عدم جواز بيعه ومعلوم أن الدور هو عدم تناهي التوقفات في أمور متناهية وأين هذا منها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015