لقد كان أغلب الأوس والخزرج يعبدون "مناة" ويصنعون على مثاله أصنامًا من خشب يضعونها في دورهم, إلا أنهم كانوا يدركون هوانها، وعجزها.
يدل على ذلك ما روي أن عمرو بن الجموح كان قد اتخذ لنفسه صنمًا من خشب يشبه "مناة" فلما أسلم فتيان من الأوس كانوا يدلجون بالليل على صنم عمرو فيحملونه فيطرحونه في بعض حفر بني سلمة، وفيها فضلات الناس منكسًا على رأسه فلما أصبح عمرو ذهب ليتمسح بالصنم فلم يجده في المكان الذي تركه فيه، فأخذ يسأل، ويقول: ويلكم! من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟
وأخذ يلتمسه في كافة نواحي المدينة حتى إذا وجده غسله، وطهره، وطيبه، ثم قال: أما والله لو أعلم من فعل هذا بك لأخزينه!
فإذا أمسى وقام عمرو عدوا عليه مرة أخرى، وفعلوا به مثل ما فعلوا، فيغدو عمرو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى, فيغسله، ويطهره، ويطيبه.
ثم يعدون عليه إذا أمسى، فيفعلون به مثل ذلك، فلما أكثروا عليه استخرجه من حيث ألقوه يومًا فغسله، وطهره، وطيبه، ثم جاء بسيفه فعلقه عليه ثم قال: إني والله لا أعلم من يصنع بك ما ترى، فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك.
فلما أمسى، ونام عمرو عدوا عليه، فأخذوا السيف من عنقه، ثم أحضروا كلبًا وربطوه به بحبل، ثم ألقوه في بئر من آبار بني سلمة فيها عذر من عذر الناس، فلما جاء عمرو في الغداة لم يجده في مكانه الذي كان فيه.
فخرج يتبعه، وابنه معاذ يحاول أن يهون له من شأن إلهه، وأن يحببه إلى الإسلام فكان يعرض عن ابنه مغضبًا، وغدا ينقلب عن إلهه، والمسلمون يزينون في قلبه دين الله فيثور في وجوههم، وإن كان كلامهم ينزل بسويداء فؤاده.
واستمر عمرو بن الجموح في بحثه عن صنمه حتى وجده في تلك البئر منكسًا مقرونًا بكلب ميت، فلما رآه وأبصر شأنه قال:
والله لو كنت إلهًا لم تكن ... أنت وكلب وسط بئر في قرن
أف لملقاك إلهًا مستدن ... الآن فتشناك عن سوء الغبن